وداع الاحبة لون من ألوان الحب والوفاء لأبي مُحمد

29/9/2015
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: الأستاذ يوسف حيدر أحمد

ما أجمل الحياة عندما يذوب الحب فيها بالوفاء، ويكون العمل الصالح عَرابَّهما، وواسطة العقد بينهما.

وعندما نعمل بجدٍ، ونيةٍ خالصةٍ لله، وحُبٍّ وإستقامةٍ نشعر بلذَّة وسعادةٍ، وكأننا نرسُمُ على لوحة الوجود لوناً من ألوان العِبادةِ ورضى النّاس، وإحترام الذات...

وكلما إقتربنا من الطبيعة في سلوكنا، وأعمالنا، ونظرنا إلى عظمة الكون نظرة تأمّل وتفاؤل، وحبِّ الله والناس والمجتمع، نكون قد تقدَّمنا خطواتٍ في مرتبة الكمال البشري، والإنساني، متماهين مع النفسية العظيمة للإديب المصري الكبير محمد عبد الحليم عبدالله الذي قال في هذا الصدد:\\\" أرى في كل نفسٍ أًخرى غيري مزيّة مُهمَّة، لذلك فأنا أُحبُّ النّاس، وأحاول أن أرى في عدوِّي ميزةً، لإن من طبعي أن أنظر إلى مزايا الناس ولو كانوا أعدائي... يهُمُني جداً أن أعطي، وأكره أن آخذ إلاّ أشدَّ ما أحتاج إليه...(1).

والشخصيّة التي نوَدُّ الحديث عنها في هذه المقالة، لا تتخطى نفسية هذا الأديب، وهذه المفاهيم والقيم، بل تعيش في أحضانها الدافئة. مرّت بضع سنوات على مرحلة تأسيس بلدة كفرسالا والتي بارك وجاهد وسعى في عمرانها، المرحوم الحاج محمد نكد حيدر حسن(أبو حميد)، لكن النّاس في تلك الحقبة من الزمن كانوا يعيشون حالة ضياع روحي، تقصير ديني، حيث لا مسجد ولا حسينيّة، ولا عالم دين ولا ثقافة دينيّة، ولا من يتحرَّك ويطالب، إلى أن قيَّض الله تعالى لهذه البلدة رجلاً جاء من ضاحية بيروت الجنوبيّة ليبني منزلاً فيها يسكنه، هذا الرجل هو الحاج مرشد حيدر أحمد (أبو محمد) q (2).

شعر هذا الرجل الطيِّب بمُفارقةٍ غريبةٍ ما بين منطقة الشياح التي كان يسكنها سابقاً، حيث كانت المساجد والمآذن تصدحُ بتراتيل القرآن الكريم وصوت المؤذن، وبين هذه البلدة التي كان يسكنها النّاس والصمت والإهمال، حيث لا مسجد ولا أذان فيها.

إستفزَّته هذه المفارقة، فعزم على فعل ما يُرضي ربَّه وضميره، فقام بزيارة الإمام السيّد موسى الصدر في مدينة صور وبلدة القماطيّة عام 1962م. بمعية الوزير السابق الأستاذ عبدالله المشنوق رئيس الخلايا الإجتماعيّة في لبنان والحاج محمد علي حيدر أحمد رفيق دربه وجهاده الدائم.

شرح أبو محمد للإمام خلال الزيارة معاناة البلدة الدينيّة، وحتمية بناء مسجد وحسينيّة فيها كرمز لهويتها الدينيّة. وطلب إليه زيارة البلدة ليبارك، وليضع حجر الأساس لمشروع مسجد وحسينيّة فيها.

وكانت زيارة الإمام لهذه البلدة، هي أوّل زيارة تطأُ فيها قدم أكبر زعيم روحي إسلاميّ أرض بلاد جبيل.

ولما كانت مسافة ألف ميل تبدأ بخطوة، فقد إنطلق أبو محمد من نقطة الصفر بكل صبر وعزم ومثابرة، مُصراً على أن تكون بلدة كفرسالا العمشيتية بلدة مميّزة بهويتها وشخصيتها الإسلاميّة. وبوصول الإمام السيّد موسى الصدر إلى البلدة يكون أبو محمد قد سجَّل أول هدف في مرمى تجذير الكيان والهوية لهذه البلدة بمباركة الإمام الصدر عند وضع حجر الأساس للمسجد والحسينيّة فيها.

وإنطلق قطار العمل بعد الإحتفال بوضع حجر الأساس. فقام أبو محمد مع كوكبة من أهل البلدة الطيّبين بحملة تبرعات عامة لانجاز هذا المشروع.

وكان جميلاً وطبيعياً أن يتبرَّع المسلمون لهذا العمل الخيري، لكن الأجمل منه، كان تبرَّع المسيحيين، كتعبيرٍ صادقٍ عن المحبة والتعايش والوحدة الوطنيّة بين أبناء الوطن الواحد.

وقد سُئل أبو محمد مَرَّةً: لماذا أنت، ولبس غيرك من يهتم بشؤون البلدة، وبزيارة الإمام السيّد موسى الصدر إليها؟ فأجاب بلسان المُثقف، وهو في الواقع أُمِّي، الذي يتحسَّس شؤون وشجون البلدة، ويأسف عندما يراها مُهمَّشة مُهملة ودون قيادة أو مرجع ديني تعود إليه كقطيع الغنم الذي فقد راعيه فتبعثر وتشرذم..

أجاب أبو محمد بحسرة وأمل:« أنا حزين بأن أرى أبناء البلدة الطيّبة، وكلّهم مسلمون لا كيان لهم ولا هوية ولا مرجعيّة ولا شخصيّة معنويّة، لا مسجد ولا حسينيّة وكأنّهم يعيشون خارج التاريخ أو على هامش الحياة، فأردت أن أهيىء لهم ما يفتخرون به من شخصيّة دينيّة ومعنوية، فلم أجد من هو أجدر وأعظم بهذه المُهمّة إلاّ سماحة الإمام السيّد موسى الصدر المعروف بمواقفه الوطنيّة والإجتماعيّة والدينيّة والإنسانيّة المُشرِّفة. وكانت زيارة الإمام لهذه البلدة هي تتويج للدعوة الأُمنية التي وُجِّهت إليه ».

كانت هذه الزيارة المباركة بمثابة مرحلة جنينية لهذه الهوية التي ستنمو وتترعرع كالطفل الذي ينمو ويصبح مع الزمن عملاقاً.

لقد أيقظت هذه الزيارة البلدة من غفوتها، وحرَّكت فيها كوامن القيم النائمة، فأخذت تتلمَّس طريق الإعتزاز بالله وبالنفس، وبالشخصيّة المُعتبرة.

وَتَقدّمَ العمرُ بأبي محمد، فأراد أن يُذكِّر النّاس من جيله وجيل الشباب الصاعد الواعد، بأن الإمام السيّد موسى الصدر قد مَرَّ في هذه البلدة وترك فيها بصمات مُضيئة خالدةٍ لا يُطفئها الزمن، وجعلها تزهو بهويتها وكيانها بعيداً عن الإنعزال والتطرُّف والعصبيّة والطائفيّة، تماماً كما هو حال المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى الذي أسَّسه الإمام خدمة للطائفة الشيعيّة ولجميع أبناء الوطن.

من أجل ذلك، ووفاءً وتقديراً منه للإمام الذي غيَّب بمؤامرة محليّة وإقليميّة ودوليّة، قرَّر أبو محمد تزيين قاعة وحسينية البلدة بلوحة صخريّة كبيرة رائعة نُحِتَ عليها بحروف صخريّة نافرة الكلمات التالية: قاعة الإمام القائد السيّد موسى الصدر. تخليداً لذكرى زيارة الإمام المباركة لهذه البلدة الطيبة.

كما، وسبق أن قام قبل ذلك، ولبضع سنوات خَلَتْ بتزيين صدر المنبر الحسينيّ في نفس القاعة بلوحة رخاميّة كبيرة ومُلَوْنة. رُسِمَ بالرخْام عليها شعار المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى تيمُّناً بهذا المجلس وبمؤسسه الذي أوقف الطائفة الشيعيّة على قدم المساواة مع سائر الطوائف اللبنانيّة بعدما كانت مُشتتة ومنسيّة.

أبو محمد، وجهٌ مُضيٌ في سماء بلدة كفرسالا وفي قلوب أهلها، ويستحق التقدير والإحترام والإعجاب. q.

 

الهوامش:

(1) محمد عبد الحليم عبدالله، الوجه الآخر، دار مصر للطباعة، الناشر مكتبة مصر، 1984، صفحة 5 و 6.

(2) كانت وفاة المرحوم مرشد محمد حيدر أحمد ليلة يوم الأحد في 3/5/2015م. بعد معاناة طويلة مع المرض.

جاء في ورقة النعي ما يلي:

زوجة الفقيد: كوكب اسماعيل حيدر أحمد

ابنه: محمد المؤهل في شرطة مجلس النواب

ابنته: آمنة زوجة السيد وسيم همدر

أشقاؤه: المرحوم محمود والمرحوم خليل ـ علي وحسن

شقيقاته: المرحومة رفعة زوجة المرحوم محمد حسن همدر

المرحومة هند زوجة المرحوم شفيق حيدر أحمد

المرحومة زينب زوجة المرحوم محمود مبارك

الآسفون: آل حيدر أحمد، آل همدر، حركة أمل وعموم أهالي جبيل وكسروان.