ذكريات: صُورةُ أبي، تُجَدِّدُ ذِكرى حُضوُرِهِ في غِيابِهِ

12/4/2020
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 

                                                     بقلم الأستاذ يوسف حيدر

في المناسبات الإجتماعيّة والإنسانيّة، ثمّة عامل مُهِمٍّ في حياة الإنسان، يتعلَّق بأفراحه وأتراحه، وأعجبَ ما فيها وأغرب، هو المفاجآت غير المنتظرة، وما تُخلِّفهُ في ذات الفرد من وَقْعٍ وأثر، ومن هذه المفآجآت ما حصل معي البارحة.

كنتُ وأخي في إحدى المناسبات الإجتماعيّة، حيث كُنَّا نُقدِّم واجب العزاء بوفاة أحد أبناء الجيران الشباب، عندما إنضمَّ إلينا أحد الأقرباء المُثقّفين الحُقُوقيين. دارت بيننا أحاديث عن الموت والأموات وقضايا أخرى. ثم رأيتُ قريبنا ينشغلُ بجهازه الخليوي، حيث ظهرت على شاشته صُوَرٌ متلاحقة لأشخاصٍ نعرف بعضهم، ونجهل الآخر. وكلّهم أموات. ثم توقفَّ عند صورة مُعيّنة ، وأشار إلينا بابتسامة وتساؤل قائلاً: هل تعرفان لمن هذه الصورة ؟.

مَرَّ أخي بنظره على هذه الصورة مُروراً سريعاً ، دون أن يعرف لمن تكون؟ أما أنا فقد حَدَّقْتُ فيها مليَّاً، مُدَققاً بملامح صاحبها فأحسستُ بحدسي وقلبي، بأن هذه الصورة هي صورة أبي الذي ارتحل عن هذه الدنيا منذ عشر سنوات ( 1923 ـ 2010 ) وقلتُ لمحدِّثنا: لعلَّ هذه الصورة لأبي، فلاحت على صفحات وجهه إبتسامة عريضة وهو يقول:  نعم إنها صورة والدك.

كان هذا المشهد بالنسبة لي مفاجأة غير منتظرة، لأنه لم يخطر على بالي أن تكون لأبي صورة موجودة منذ قرابة ثمانية عقود من الزمن. دون أن أعرف شيئاً عنها!

ورنوتُ الى الصورة من جديد، كان أبي فيها في ريعان الشباب، في العشرين أو دون ذلك قليلاً.

فرحتُ بهذه المفاجأة. وحزنتُ في الوقت عينه، فرحتُ لأن هذه الصورة تُذكرني بشباب أبي منذ ثمانين عاماً، وحزنتُ لأنها أعادتني بالذاكرة إلى ما كان يَقوُلهُ لي خالي وأمي عن البُؤس، واليُتم وشظف العيش الذي كابده أبي في طفولته وشبابه، وربَّما كالكثير من أبناء جيله.

وعلمتُ من قريبنا. ان سبب بقاء هذه الصورة منذ زمن بعيد هو أن والده الذي تُوفِّيَ منذ بضع سنوات، كان شغوفاً بجمع صُوَر الأقرباء، وحفظها في أرشيفه الخاص للتاريخ والذكرى وكانت هذه المفاجأة مناسبة لكشف سر هذه الصورة، التي جعلتني أنظر اليها بعين الحبّ والعاطفة والألم. مُتذكِّراً طفولة وشباب أبي وحياته بين أسرته.

ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد تذكرتُ صورة حادثةٍ دراميةٍ في الماضي، تركت كَلُوماً غائرةً في نفسي، ولا سيما عندما وَعِيتُ على الحياة، شعرتُ فيها بعقدة ذنبٍ تجاه أبي ـ من دون قصدٍ ومن دون وعيٍ مني بسبب طفولتي ـ لأنني سَببَّت له صَدْمةً أو مأساةً انسانيةً لم أكن لأتمنَّاها له البتَّة.

ومفاد هذه الحادثة، هو أنني كنت في السنة الثانية من عمري عندما إصطحبني أبي معه في رحلة إلى إحدى القرى الجبلية القريبة من منزل جدي لأمِّي في أحد نهارات أيام الصيف وكان الطقس شديد الحرارة، الأمرُ الذي أثَّر عليَّ كثيراً فأُصبتُ بإغماء أصبحتُ فيه كالميِّت.

لم يتقبل العقل الباطن لدى أبي هذا المشهد الكئيب، لا سيما وأنني أصبحتُ وحيدهُ بعدما إفتقد بضعة أطفال قبل ولادتي، ماتوا قبل إكمال السنة الأولى من ربيعهم. لذلك تعلّق أبي بي بجنونٍ، وأصبحت حياتُهُ متعلقةً بحياتي سلباً أو إيجاباً.

وأمام هذا المشهد المأساوي. جنَّ جنونه. فأخذ يلطمُ وجههُ ويتمرَّغ على الأرض كالطائر المذبوح.

شعر جدي بحراجة الموقف، وكنا في منزله، وخاف في تلك اللحظة الحرجة من أن تتكرَّر حادثة إخوتي الذين سبقوني الى عالم الآخرة، وأصابتهُ عدوى جزع أبي وضياعِهِ. فوقف تحت عتبة منزله. مُتوجِّهاً إزاء القِبلة، وبقلبٍ ملهوف، وحزنٍ كبير، صاح بأعلى صوته مستنجِداً بالله. مُستشفعاً بأحد أبناء الإمام عليّ وهو يقول بخشوع ورهبة وأمل:  إيه يا أبا الفضل العباس إفْدِ رُوحي بروحه . ونذر أن يذبح خروفاً كبيراً إن شُفيتُ.

واستراح أبي. وتدحرجت الصخرة الكبيرة عن صدره عندما إستيقظتُ من غيبوبتي العميقة.

وعندما أسترجعُ صورة هذه الحادثة أُصابُ بحزنٍ وحسرة أكاد أبكي فيها على أبي، على حبّه الجارف لي وعلى حنانه اللامتناهي. وأشعر بالعلاقة الجدلية الحميمة بين الأب وإبنه، وهل أنا إلاَّ بضعةً منهُ!

هذه العلاقة الجدلية مُستمرَّة في غيابه كما كانت في حضوره وذلك عن طريق الاستذكار، والاستئناس، والرضى والاستغفار دائماً، ولا سيما عندما أزور قبره مساء كل خميس. فيفرح بوجودي قربه، ويستأنس، ويترضى عليّ، ويحزن عندما أغادر ذلك المكان. أما أنا، فأًترحم عليه، وأستغفر الله له وأُنعشُ روحه الطاهرة بتلاوة الذكر الحكيم، طالباً له الأمان والسعادة الأبديّة، ونستمر على ذلك، حتى يقضي اللهُ أمراً كان مفعولاً.

وها أنذا اليوم. بعد مشاهدتي صورة أبي، هذه المفاجأة السارَّة والغالية على قلبي، أعود الى الوراء ولأكثر من ثمانية عقود من الزمن ـ قبل وجودي في هذه الحياة الدّنيا لسنوات طويلة ـ لأغرقَ في بحر ذكرياتٍ مُلوّنة مع أبي، منها محطّات زاهية بألوان الفرح والسعادة. وأُخرى مصبوغة بالأسى والألم والعذاب.

ومع هذه وتلك. تَتَجدَّدُ ذكرياتي مع أبي وبديمومة في روحي وقلبي ووجداني، وتبقى حاضرةً رغم غياب جسده التُرابي عن ناظري...

                                                  عمشيت في 20 شباط 2020