إلى أين ؟...

20/1/2017
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم المربيّة الحاجة نمرة حيدر أحمد (أم مصطفى)

كعادتي كلّ يوم أربعاء أفضّل الذهاب إلى عملي مشيّاً على الأقدام علّني أحرّك جسداً أنهكه الجلوس وراء المكتب، فنصف ساعة من المشي صباحاً كفيلة بالترويح عن نفسي وجعلي أشعر بالحيوية والنّشاط. ولكنّ الطريق الذي كنت أسلكه عادة قطعته الحفريات التي اعتدنا عليها في بلدنا، مما اضطرّني لتغيير وجهة سيري وسلوك ممرّ داخليّ بين البيوت.

ربما ما حصل معي كان مقدراً ليضعني وجهاً لوجه أمام مشهدٍ سمعت بمثله كثيراً ولكن لم يكن قد لامس شغاف قلبي مثلما حدث معي هذا اليوم .

إمرأة لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها تمسك بيدها طفلاً في الرّابعة من عمره يرتدي زياً مدرسيّاً تحاول إدخاله بالقوة إلى السّيارة ولكنّه كان يمتنع ويصرخ بأعلى صوته طالباً الحصول على كيس من رقائق البطاطا، فما كان منها إلاّ أن صفعته وصبّت جام غضبها عليه، وراحت تنعته بأبشع النّعوت وتشدّه من شعره، بكل قوتها وبعنف أدخلته إلى السيارة، أدارت المحرك، وأقلعت بسرعة هائلة كادت أن تدهسني لولا لطف الله وعنايته....

أذهلني ما رأيت، فتساءلت في نفسي هل هي أمّه حقاً؟ وإن كانت كذلك فأي نوع من الأمهات هي؟ وأي قلب تحمل بين ضلوعها؟ كيف طاوعتها يدها لتصفع طفلها وتشّده من شعره وتنهال عليه بأبشع النعوت؟ كيف تحوّلت في لحظات من امرأة تراها للوهلة الأولى أنيقة بمظهرها راقية بتصرّفها إلى امرأة عنيفة شرسة فاقدة للصبر وحسن التدبّر؟

فالمشهد لم يفارق مخيلتي طوال اليوم، وبقيت منزعجة ممّا رأيت والألم يعتصر قلبي كلّما تذكّرت ما حصل.

مرّت الأيام وانهمكت في عملي وتناسيت الأمر، ولكن شاءت الصّدف ان تنتدبني إدارة المدرسة حيث أعمل لتمثيلها في احتفال تقيمه مدرسة من مدارس بيروت العريقة في عالم التربية والتعليم بمناسبة عيدي الطفل والأم.

في اليوم المحدّد ذهبت إلى حيث سيقام الإحتفال، دخلت قاعة المسرح بعد ترحيب من المشرفات على التنظيم، وحفاوة من مدير المدرسة الذي تربطه علاقة قربى بمدير مدرستنا.

كان المقعد المخصص لجلوسي في الصفّ الأول، جلست في مكاني، وما هي إلا دقائق حتى بدأ الاحتفال بالنشيد الوطني ومن ثمّ تلته فقرات فنّيّة قدّمتها مجموعة من الأطفال دون سن السادسة، بعد ذلك أطلّ مقدّم الحفل ليعرّف بمسؤولة قسم رياض الأطفال التي ستلقي كلمة تبيّن من خلالها أثر التعنيف الأسري والمدرسي على شخصيّة الطفل، أعجبني العنوان، وتملكتني رغبة بسماع ما ستقوله قبل مغادرة القاعة، ما هي إلا دقائق حتى دخلت سيدة تحمل بيدها ورقة ألقت التحيّة وبدأت بالكلام، أمعنت النّظر في وجهها، فصعقت وأصابني الجمود، إنّها تلك المرأة التي ما زالت صورتها مطبوعة في ذاكرتي منذ ذلك اليوم.

ألقت على مسامعنا كلمة قيّمة حول أهميّة التعامل مع الطفل بحنان ورأفة وضرورة الإبتعاد عن تعنيفه لأنّ ذلك ينعكس سلباً على شخصيته ونموّه الذّهني والعاطفي. أنهت كلامها بابتسامة عريضة وبتصفيق حادّ من الجمهور.

لا أعلم ماذا أصابني، شعرت كأنّ جريان الدّمّ توقف في عروقي، حملت حقيبتي وأسرعت بالخروج قبل إعلان نهاية الاحتفال والدعوة لتناول الحلوى..

عدّت إلى المدرسة جلست وراء مكتبي حملت قلمي وكتبت أول عبارة استحضرتها لأعبّر عما كان يجول في خاطري، فكانت حكمة لأمير البلاغة والفصاحة سيّد البيان الإمام علي بن أبي طالب t في نهج البلاعة رقم 73:[« مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِهِ قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِهِ وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُهُ بِسِيرَتِهِ قَبْلَ تَأْدِيبِهِ بِلِسَانِهِ وَمُعَلِّمُ نَفْسِهِ وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالْإِجْلاَلِ مِنْ مُعَلِّمِ اَلنَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ »] بئس قوم يقولون ما لا يفعلون . كيف لهذه السيدة التي لم تستطع معالجة موقف بسيط مع طفلها أن تحمل مسؤولية تربية أطفال الغير؟ كيف يمكن لمن وصفت ولدها بأبشع النعوت أن تعلّم الأطفال حسن التواصل والاحترام؟

إن منظومة القيم الإنسانية لا تبنى بالأقوال فعملية بنائها عند الطفل تبدأ من داخل الأسرة، وتعزز وتفعّل في المدرسة، ويبرز ناتجها لاحقًا في المجتمع.

لا تعلّم القيّم بالأقوال والمواعظ إنما بالقدوة، فالأم التي تعنّف طفلها لا تتوقع منه أن يكون رحيماً مع الغير، ودوداً، يحسن التواصل معها مستقبلاً.

لم اعد أستغرب ما أراه في هذا الجيل من انحراف في القيم، فالتعنيف بمختلف أشكاله بات سيّد الموقف في معظم الأسر، والبيوت غزاها الفساد من أوسع أبوابها من خلال التلفاز الذي حمل لنا ما يندى له الجبين من برامج فيها اسفاف وابتذال، لا تراعي قيماً ولا محرّمات، كلّ شيء فيها مباح يحضرها الكبار والصغار من دون أي رادع، عدا عن تبجيل بعض البرامج لشخصيات وصم تاريخها بشتى أنواع الفساد.

لا أعلم إلى أين سنصل في ظلّ مجتمع معظم أُسره مفككة، معظم أطفاله يعانون من التعنيف والقهر أو من الإهمال وسوء التربية.

لا أعلم إلى أين سنصل في ظلّ مجتمع قيمه باتت أقوالاً لا تترجم إلى افعال، قدوة أطفاله وشبابه فنانون وعارضو أزياء ومذيعون.

الحديث يطول ويطول وما ذكرته في هذا المجال غيض من فيض، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل سنفقد الأمل ونقف مكتوفي الإيدي تجاه ما يحصل؟ أم نشمّر عن السّواعد ونتكاتف لننير شمعة أمل نضيء بها عتمة النفوس المُنحرفة، ونروي بذور الإيمان في مجتمعنا لتنمو وتثمر محبة وتسامحاً وعطاء؟.