حشرجة روح

12/4/2020
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

                                                                بقلم المربية أماريا برادعي سليم

هل حُرِّمَ عليّ النوم الهانىء؟ أو هل سوف تعود إلى مقلتيّ تلك الإغفاءة اللذيذة فأتذوق من جديد طعماً للاستغراقة الحالمة التي كانت تلفّني كلما جاء الليل، وحتى إذا تسلل النوم إلى عيني على غفلة من الضباب وعلى غُرّة من الأطياف، فهو إنقاذ مُتّقطع، لا يكاد يغلبني حتى يغلبه الضباب، وأطيافه القاسية الهوجاء، فيوقظني لأواجه من جديد واقع الحياة...

ما أحلى النوم الذي يبعدني عن الواقع المرير وما أمرَّ النوم الذي تلاحقني خلاله ظلال اليقظة القاتمة، أتراني أتمكن أن أعدّه نوماً، أم هو أحد أشكال العذاب وبعض أنواعه؟!

ولهذا فأنا لا أتمكن أن أقول أنني لا أنام، فأنا أنام، ولكن أي نوم؟... وأنا لا أريد أن أقول أنني لا أضحك، فأنا أضحك، ولكنها ضحكة جريحة وكأنها حشرجة روح، وأنا لا أريد أن أقول أنني لم أعد أحيا كما تحيا الأُخريات، أنا أحيا ولكن أي حياة؟...

إنها أشبه ما تكون بالحجر الكاوي الذي تغطيه طبقة من الرماد الهادىء، فلا يوحي للناظر بما يخفيه.. هكذا كنت، ولا أزال أضحك ليضحك سواي وأتظاهر بالسعادة ليسعد من يهمه أمري فيفرح لذلك صديقي ويأسى له عدوي..

ولكن أتراني سوف أتمكن من المقاومة، أم أن معالم الضباب، هذا الضباب القاتم الذي يحاكي لونه، لون عباءتي السوداء، أتراه سوف يرسم خطوطه على قسماتي فَيبدي ما أحاول إخفاءه، ويفضح ما أودُّ ستره... ليتني أتمكن من الثبات، فأنا لا أطيق نظرات الرحمة، وهي منصبّة عليّ، ولا أريد ضحكات الشماتة، وهي تتردد على مسمعي، تحمل صداها المشؤوم... ليت هناك من يحاول أن يستنقذني مما أنا فيه!

جفّت الدموع وأخشوشن وجهي وعلقت دمعتي تأبى النزول.. وسنين عمري تمرُّ وأنا بعيدة كل البُعد عن الحياة.. في غرفة قاتمة لا نور شمس يدخلها ولا هواء عليل يَمرُّ بها ولا أنيس لوحشتي.

فقري الذي أدماني وحطّم كياني وجعلني أقبل بالزواج من رجل حُرِمَ من الأبوة لسنين لأنه تزوج من ابنة عمه التي كانت كُلَّ حياته ولا يستطيع التخلّي عنها مع أنّها لم تنجب له الأولاد.

قابلني والده في الطريق عندما كنت أجرُّ أذيالي المُتعبة وأتنقل من رصيف إلى آخر بحثاً عن مكان يُبعدني عن هواء قارس وأمطار غزيرة، قابلته صُدفة يركض تحت مظلته ليدخل المطعم الذي جلست أمام بابه علني أحسُّ بحرارة فُرنه فأدفىء جسمي المتجمد.

أمسك بيدي عندما انزلقت رجلي وحاول النهوض بي. رجل في غاية الاحترام والأناقة والأدب، ساعدني وأجلسني معه على طاولة الطعام التي حلمت بها طوال حياتي ولم أعد قادرة على إشباع نفسي مما لذَّ وطاب من الطعام الذي طلبه لأجلي وسمع قصتي كاملة وهو ينظر إلي ببسمته التي لم تُفارق محياه وعينيه الشاردتين في تفكير وددت معرفته، ولم أنتظر طويلاً حتى قاطع كلام قلبي المبعثر وجعلني أحلم بحياة ملؤها الفرح والسكينة والهدوء.

صرخت بأعلى صوتي ستزوجني؟

نعم ستتزوجين ابني الذي حُرِمَ من أن يصبح والداً مدى الحياة، وأعطيك كل ما تطلبينه منزلاً ومالاً في حسابك بالمصرف يجعلك تعيشين مرتاحة سنين طويلة.

أنهينا الكلام وذهب بي إلى منزل كبير ووعدني بالعودة في اليوم التالي على أمل موافقتي على العرض الذي طلبه مني وإعطائي كل ما قاله لي بعد ولادتي بابني وإعطائه لهم.

مرَّ الليل بساعاته ودقات قلبي تتسارع ولا أعلم ما ينتظرني في الأيام القادمة.

أشرقت شمس الصباح وأنا جالسة أمام شرفة الغرفة أتأمل الليل ونجومه وضوءه الخافت وصوت هدوئه القاتل والتفكير يخرق كياني، جاء والفرح بادياً على وجهه وفي يده ورقة يرفعها أمام عيني ويقول هذه لك لقد تمَّ تسجيل المنزل باسمك ومبلغ يكفيك كل حياتك ولا يلزمها سوى توقيعك عليها ليصبح كل شيء لك وابني سيأتي بعد قليل، لذا عليك تجهيز نفسك وارتداء تلك الثياب التي أحضرتها لك، إنها جميلة، انظري إليها، بسرعة عليك أن تسرعي قبل أن يأتي.

عند العاشرة صباحاً فتح الرجل الباب واستقبل ابنه بحرارة بدون علمه بما يخفيه عنه والده.

ما بك يا والدي لقد أخفتني منذ أن كلمتني وطلبت مني المجيء بسرعة إلى هنا، أما زلت تتردد إلى هذا المنزل؟

أدخل يا بني، لقد جهزت لك مفاجأة لطالما حلمت بها ستفرح كثيراً.

ناداني الرجل بصوته الفرح وهو يفرك يديه وينظر إلى ابنه ويقول أنظر يا بني ستنجب لك ولداً يحمل اسمك وأُصبحُ جداً ويبقى اسم عائلتنا صامداً.

لا أفهم يا والدي ماذا تقصد؟

لا عليك ستعرف كل شيء عندما نذهب إلى المنزل ونخبر الجميع عن المفاجأة التي حضَّرتها.

في المساء عاد الوالد مع ابنه الذي كرهني قبل أن يعرفني وأخذ عني فكرة لن يمحوها أبداً، نظر إلي بعينيه الحاقدتين وابتسامته الساخرة مني وخوفه من قول أي كلمة أمام والده الذي اتضح لي مدى تسلطه على العائلة بأكملها، فكيف لهم بالموافقة على هكذا أمر من الصعب عليهم تقبله لا بل من الأصعب علي أنا ما سأمُّر به.

اقترب الوالد مني مُبتسماً يكاد يطير من شدّة الفرح ليقول لي: هذا زوجك معك وسأترككم لأعود غداً لأطمئن عليكم.

جلس هذا الرجل الغريب ودخان السجائر يرتفع عالياً بات وكأنه أشباح تلفُّ في أرجاء المنزل وفي عتاب على ما فعلت.

اقتربت منه لأسأله إذا كان يريد تناول الطعام أو تبديل ملابسه ليرتاح بعد عناء يوم طويل ليقبل بهذا العرض القاسي.

نظر إلي بسخرية وحقد وكراهية وقال: أنا متزوج ولدي زوجة لا مثيل لها وأحبّها ولا أستطيع العيش من دونها ووجودي هنا قسراً وليس بإرادتي، فبمجرد النظر إليك أشعر بالاشمئزاز لقبولك التخلي عن فلذة كبدك مقابل منزل أو مبلغ من المال.

ودقَّ الباب بسرعة كاد يتحطم، فأسرعت لفتحه وإذ بي أجد امرأة طويلة في غاية الجمال والأناقة تنظر إلي وكأنني أخذت لها شيئاً ثميناً فعلمت حينها أنها زوجته عندما ركضت نحوه تعانقه وتقبله وتبكي وهي تقول بأنها ذاهبة إلى منزل القرية بعد طلب عمها لها لكي لا تشعر بالاكتئاب والحزن.

قاطعها زوجها وهو يقول: لن أتخلى عنك وتلك الفترة ستمضي، لا تخافي، لن أقترب منها فأنت ما أريده في حياتي.

اقتربت مني وقالت: أعتقد أنك سمعت ما قاله، وأنا أؤكد لك كل كلمة نطقها، فنحن نعيش سوياً لا نريد أي شيء في حياتنا وهذا ما وعدني به زوجي وما أنت به الآن هو ما قرره عمي ليس أكثر، وودعته وكأنها لا تريد الذهاب.

دخلت الغرفة أبكي لأنني أريد الحياة لأُمي المريضة التي تركتها بحثاً عن المال لشفائها، قبلت بهذا العرض القاسي لأهرب من الحرمان والفقر والجوع الذي لم يشعر به مطلقاً.

ومرّت الأيام وهو في المنزل لا يعمل، أو بالأحرى لا يستطيع الذهاب خائفاً من والده ويقضي نهاره وليله بالتدخين ومشاهدة التلفاز الذي ينسيه همه قليلاً والتحدث مع زوجته طويلاً.

لم أنسَ يوماً بأنه زوجي ولو لفترة، وكنت أُجهّز له الطعام والثياب وقهوته وأنّظف مكان رماد الدخان الذي يرميه أرضاً ليهزأ مني عندما أُنظّفه.

هذه حالتي، وذلك همي، وهذا ما وسوس لي أن أعتزل كُلَّ الفقر، وأفارق مآسيي وحزني ووالدتي التي تركتها تنتظر الدواء، علني أجد لحظة سعيدة أعيشها، فها أنذا قابعة في كسر بيتي، ولا مؤنس لي إلا وحشتي ولا أنيس إلا وحدتي، أتخيل البيت قبراً والثوب كفناً والوحشة وحشة المقبورين في مقابرهم، لأعالج نفسي على نسيان الحياة، وأمانيها الباطلة، ومطامعها الكاذبة، حتى يبلغ الكتاب أجله، وهذا آخر عهدي.

لملمت أغراضي لأعود إلى ما كنت عليه.. اقتربت منه لأوضح له لماذا قبلت بكلِّ هذا الذل والإهانة، اعتذرت منه وأعطيته كل ما كتب باسمي وقلت له لو جرَّبت الفقر والجوع والبرد ليوم واحد فقط كنت تصرّفت أضعاف ما قبلت به ولكن القدر وضعني أمامك ومعك، أعتذر منك وأطلب المسامحة، ولم أشعر بنفسي بعدها.

فتحت عينيّ ووجدت نفسي في السرير وهو بجانبي على كرسي ينظر إلي بعينيه الدامعتين، حاولت النهوض لكنه ردعني قائلاً هذا منزلك ولن تتركيه أبداً وسأبقى إلى جانبك إن شئت.

ضمني إلى صدره وأحسست حينها بالحنان والطمأنينة التي حرمت منها وأصبح لي سند يحميني من مآسي الحياة وأحزانها.

عشت أجمل لحظات حياتي ابتسمت وضحكت وشعرت وكأنني طفلة مُدلّعة تعيش طفولتها بفرح وهدوء.

أبصر ابني النور، وفتحت عينيّ لأجد نفسي وحيدة بعيدة عن كل الفرح الذي مررت به ولم أسمع صوت بكاء ابني ولم ألمس يده الصغيرة الناعمة، لم أضمُّه إلى صدري وأشتم رائحته التي حلمت بها..

حاولت النهوض فدخل زوجي، طلبت منه رؤية ابني فدمعت عيناه وقال لي بأنه ذهب مع والدي، فتذكرت بأنه ليس لي، هو لهم، فأنا بعته قبل أن يأتي إلى الحياة، قبضت ثمنه منزلاً وبعض المال، فلِمَ أبكي وأحزن؟

ومرّت الأيام وقلبي لا يتقبل بُعدَه عني، كنت أصرخ طويلاً ليل نهار أريد رؤيته لأضمّه وأقبّله، وزوجي الذي رفض تركي بمفردي محاولاً تهدئتي ووعدني بأن يعود ولكن لا يستطيع أن يعصى كلام والده، فاقترحت عليه بأنني سأعمل خادمة عندهم وأعتني بالولد ولن أتكلّم طالما أنا على قيد الحياة.

وفعلاً قبل الجميع وحتى زوجي الذي الغى عقد زواجنا بعد مجيئي إلى المنزل وكان شرط والده أن لا أكلمه ولا أتفوه بكلمة طيلة حياتي.

وهكذا قضيت حياتي خادمة في هذا المنزل وفقدت أُمي بعدما تركتها بأيام والآن ابني أمامي ولا أستطيع قول الحقيقة له وزوجي الذي أراه ينظر إلي بشفقة ولكن نظرات والده وزوجته إلي تجعلني أستيقظ من الحلم الذي أودُّ تحقيقه فأعود إلى صوابي.

كبر ابني أمام عيني وماتت زوجة أبيه بعد مرض عِضال فحزن كثيراً ولكنني ساعدته على النهوض من تلك الأزمة لإكمال مسيرة حياته وأنهى دراسته في الجامعة وقرر أن يخطب صديقة له قد أحبّها منذ أن كانا معاُ في الثانوية وكنت أساعده ليلتقي بها بعيداً عن أهله، كان يثق بي دائماً يخبرني كل تفاصيل حياته.

قررت يوماً أن أقول لصديقته علّها تساعدني ليعرف ابني الحقيقة وأسمع كلمة حرمتُ منها سنين عديدة، وبالفعل قابلتها بعيداً عن المنزل فهي واعية وستفهم كل ما حصل.

جهزّنا كل ما يلزمهما للخطوبة وكان كل شيء على ما يرام والضيوف فرحين، كنت أنظر إليه وأتمنى لو أضمّه وأقبله وأقول له أنا أُمك التي حُرِمت منك ومن كلمة ماما التي انتظرتها طويلاً.

عُزفت الموسيقى الهادئة وأمسك بيد عروسه ليرقصا سوياً ووالده يرقص مع زوجته والهدوء يَعمُّ المكان، فاقترب مني وأمسك بيدي وطلب من الجميع الاستماع إلى ما سيقوله..

أنا اليوم سأرتبط بفتاة أحلامي التي أحببتها منذ فترة ولكن الحبَّ الأكبر هو لتلك المرأة التي ضحت من أجلي وبقيت خادمة هنا بعلم أبي والمرأة التي ظننت أنها أُمي وجدي الذي وثقت به وبحبّه لكلّ المحتاجين، وللأسف لقد علمت مؤخراً أن تلك المرأة هي أُمي وتلك العائلة هي من كذبت علي وتركتني بعيداً عن الحبِّ والحنان الحقيقيين.

نعم.. هذه هي أُمي ولست بحاجة لأن أعرف كل تفاصيل الموضوع فهي خادمة هنا منذ صغري وتحمّلت المشاق والصعاب لأجلي.. فهل أنكر وجودها وأحرمها من كلمة ماما..

ماما.. أنا هنا معك ولست بحاجة لأن تخافي عندما تقتربين مني سأبقى هنا لأجلك.

ضممته إلى صدري وبكيت طويلاً وصرخت بأعلى صوتي أنا أُمك التي حلمت بسماع كلمة ماما من فمك، أنا أُمك التي عاشت حياتها خادمة لك، أنا أُمك التي ضحت بكل ما تملك وخسرت كل شيء لأجلك ولكني سامحت الجميع ولن أُعاتب أحداً فها أنا حققت حلمي وابتسمت لي الحياة من جديد وأرجو منك مسامحة والدك لأن الذنب ليس ذنبه وكلنا اخطأنا وتحملنا عواقب أخطائنا .

اقتربت عروسه وقالت كفاك بكاء فهذا ابنك معك، وكفاك شقاء وهمّاً فنحن معك وبجانبك.

وبعد فترة مات الجدُّ ومنذ ذلك الوقت ونحن نعيش حياة سعيدة وعاد زوجي إليّ وابني الذي أصبح والداً رائعاً لفتاة وولد رائعيْن.