قصة العدد: نحن والحياة

25/6/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

المربية أماريا برادعي

كنا غالباً ننام حول الموقد، ننتظر بشوق حكايا أمنا المليئة بالفرح والأمل، ولكن اليوم كانت القصة غريبة بعض الشيء إذ أن دمعة باردة مرت على خدها وبدأت بسرد القصة التي أحببنا الاستماع إليها قبل سماعها.

منذ أن أصبح عمري خمس سنوات أصيبت أمي بمرض عضالٍ أودى بحياتها وتركت خلفها خمسة أولادٍ صغار لا معين لهم سوى جديهما ووالدهما الذي احتار ماذا يفعل بهم.

ومرت السنين والأيام وكبر الأولاد شيئاً فشيئاً، ومن المدينة إلى القرية قضوا حياتهم التي صارت بدون حياة.

في يوم من أيام شهر رمضان ذهب الوالد إلى المدينة لقضاء بعض الحاجات الضرورية، وإذ بالحرب قد نشبت وبقي الأولاد مع جديهما في القرية، وبعد حوالى أسبوع طلب الوالد رؤية أولاده وكأن إحساساً ما في قلبه يختلج مع الحزن ولكن الظروف لم تسمح له.

بعد هدوء الأوضاع قليلاً ذهب الوالد إلى القرية وخلال جلوسه على درج المنزل مع ابنته، إذ بسيارة كبيرة تترجل منها مجموعة شبان يسألون عن رجال القرية ولم يكن هناك غير الوالد فأخذوه معهم في السيارة بعدما رموا بوالدته أرضاً فأطل ابنه الأكبر على السيارة من أعلى السطح فرآها متوقفة وهم يضعون كيساً أسود في رأس والده ويرمونه في الصندوق.

بقيت العائلة تنتظر الوالد لساعات وساعات، ومر الليل الطويل وجاء النهار ولم يحضر بعد، ولكن عند الظهر قرع الباب فركض الجميع والبسمة ترتسم على وجوههم التي تجهمت فجأة عند رؤيتهم قريباً لهم يخبرهم بأنه يعلم أين هو ولكنه ليس بخير.

انهارت الجدة من كثرة البكاء وحاولت تمالك أعصابها أمام الأولاد، وفي اليوم التالي جهز الجميع استقبال الوالد بحرارة على أمل رؤياه سالماً ولكن الصدمة الكبرى عندما وصل محملاً على الأكتاف مهدور الدماء بدون حراكٍ.

تجمعت العائلة حوله، هذا يضمه وذاك يقبل يديه وتلك تنوح وتطلب أن يفتح عينيه، وحاول أهل القرية تهدئتهم ولكن مهما قالوا ومهما فعلوا فهذا الأب المجاهد في سبيل عياله قد هُدر دمه ولم يعرفوا سبباً لهذا أو من فعل ذلك.

ضمّ الجد والجدة الأحفاد اليتامى على أمل النسيان، ومرت الأيام وماتت الجدة في المرض العضال الذي أودى بحياة الوالدة منذ سنوات والتفَّ الجدُّ حولهم محاولاً النهوض بهم نحو بسمة أو ضحكة تنسيهم ما عانوه من أسى وحسرة.

لم يجد الجد معيناً له في تربية الأولاد فقرر الابن الأكبر السفر للعمل ومساعدة الجد في تقديم لقمة العيش لإخوته.

ومرت الشهور والسنين وكبر الجميع وتزوج هذا وذاك وبنى كل واحد منهم منزله الخاص بكل حب وحنان محاولين تعويضهم عن كل ما خسروه وكانوا بحاجة إليه، ولكنهم لم ينسوا معاناتهم وظلوا بجانب بعضهم البعض واحتضنوا الجد الذي صبر وجاهد في سبيل تأمين القوت اللازم للعيال اليتامى.

وأكملت الوالدة القصة لأولادها بعدما مسحت دموعها وأضافت بأن عمها لم يتركها مطلقاً بل بقي إلى جانبها في كل لحظة واحتضنها لأنها الفتاة الوحيدة بين أربعة شبان.

وشاء القدر أن تتزوج باكراً من رجل كان كل حياتها وأنساها ما يهمها من أحزان الدنيا ولكن بقي القلب المجروح يحاول الانتقام من الذين أبعدوا الفرح عن عائلتها وظلت في كل فترة من فترات الحياة تحكي قصتها المؤلمة أمام من يحب سماعها من فمها لأنهم يريدون استذكار مشهد الطفلة اليتيمة التي ألبسوها السواد الكامل والقاتم والتي أبكت الحاضرين.

ضمت الوالدة أولادها الأربعة واختتمت قصتها قائلة:

«الحياة لا تحتاج للبكاء بل تحتاج إلى الصمود والأمل والهدوء والسكينة لإكمال المسيرة».