مفهوم الزمن والدهر

12/4/2020
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

                                   مستشار التحرير الدكتور عصام علي العيتاوي

الزمن من المفاهيم الواسعة جداً، خاصة إذا أخذناه بالنسبة للمكان، الذي يختلف في طبيعة تكوّنه ومنزلته من هذا الكون الفسيح. الذي لا يُعلم حتى اليوم عدد مجراته وكواكبه... لكن ما نعلمه أن اليوم المقدَّر في كوكبنا الأرض الذي نعيش على سطحه، يساوي أربعاً وعشرين ساعة، أما بالنسبة لكوكب القمر فاليوم غير ذلك، فالسنة الشمسية تختلف عن السنة القمرية بحوالي عشرة أيام، والمعلوم أن القمر هو من أقرب الكواكب إلى الأرض. ناهيك عن الكواكب الأخرى التي تبعد بمسافات أكبر عن الأرض، والتي لكل منها دورة خاصة بها، ما يعني إختلاف السنوات بالأيام لكل منها.

وعليه فالتقويمات الزمنية تختلف عند الناس، في الكوكب الواحد وعدد أيام السنة به، كل بحسب اعتقاده وتقويمه، وكما تقدم السنة الشمسية الميلادية (بالنسبة للسيد المسيح (عليه السّلام)، هي 365 يوماً و 6 ساعات و 9 دقائق و 5.9 ثانية، والسنة القمرية بالنسبة (لهجرة الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من مكة إلى المدينة)، هي 354 يوماً و 8 ساعات و 48 دقيقة و36 ثانية، والسنة بالتقويم الصيني، 353 و355 يوماً أو 383 إلى 385 يوماً بإضافة شهر إلى السنة الكبيسة([1]). والتقويم الفارسي السنة 365 يوماً وإلى 366 يوماً تبدأ في 21 آذار. والتقويم العبري عدد أيام السنة 383 أو 384 أو 385 يوماً، شرط ألا يصادف يوم الغفران يوم جمعة أو أحد. وسوف أعتمد في حساب الزمن هنا، على السنتين الشمسية التي معظم دول العالم تؤرخ بموجبها، والسنة القمرية المعتمدة من بعض الدول العربية والإسلامية.

مفهوم الزمن

سأتناول مفهوم الزمن بأبعاد ثلاثة وهي: الزمن الأول، أو ما يطلق عليه الدهر، والزمن الحالي الذي نعيشه في الدنيا، الذي تحسب به أعمارنا، ويكتب فيه تأريخنا، والزمن الآخر الذي سنعيشه وننتقل إليه بواسطة الموت، أي الزمن الأخروي، الذي يتلو الزمن البرزخي مباشرة. مصداقاً لقول الله تعالى في القرآن الكريم. عندما يتوفانا ملك الموت: \"وجعلنا من خلفهم برزخاً إلى يوم يبعثون([2])\".

والذي يلفت النظر في القرآن الكريم، بالنسبة للزمن وأهميته، أن الله تعالى أقسم به، في أكثر من آية، وفي أوقات معينة دالة على أعمال واجب القيام بها من المؤمنين، يمكن إجمالها بأحوال تميّز اليوم الواحد، فتجعل له ثلاث فترات وهي: الفجر والضحى والعصر. وهي ثلاثة أوقات مهمة للعبادة، يمكن أن تلعب دوراً مهماً في حياة كل الكائنات، ومن بينها الإنسان، ومسألة العبادة ركيزة أساسية في أصل الخلق لقوله تعالى: \"وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون([3])\"، وقال: \"والفجر وليال عشر([4])\"، وقال أيضاً: \"والضحى والليل إذا سجى([5])\"، إضافة إلى العصر: \"والعصر إن الإنسان لفي خسر([6])\"، كذلك في القرآن الكريم، الكثير غير هذه الآيات الدالة والواضحة على القسم بالزمن، إلا أني لا أتطرق إليها، حتى يمكن أن يضبط هذا البحث ذهنياً، بالنسبة إلى الأوقات الثلاثة الزمنية كما تقدم.

وبما أن لفت النظر إلى أن معنى مفهوم الزمن الأول، هو الدهر، وكان ذلك قبل أن يخلق الله الكون كله، لا بُدَّ من شرح هذه المفردة (الدهر) باعتبارها لها علاقة متينة في حَضْنِ الزمن المحدود، الذي نعرفه كلنا ونحسبه وفاقاً للساعات التي بين أيدينا، والتي تمرُّ عبر اليوم الواحد، لتكمل كل يوم بأربع وعشرين ساعة. إنما الدهر يضمُّ ما قبل الزمن ويستمر بعد الزمن، وسوف أتناوله من ناحيتين فلسفية وماهية.

مفهوم الدهر فلسفياً

يستدل عليه من التكوين الذهني للمبدعين، الذين يستنبطون الصور الأولى لكل صناعة جديدة مهما كانت، وكذلك ينطبق هذا المفهوم على كل صاحب صنعة أساسية، وهو كما يأتي: كما تكون في نفس الصانع صور المصنوعات، قبل إخراجها ووضعها في هيولاها*، فالله هو مفيض تلك الصور على النفس الكلية دفعة واحدة بلا زمان. وبما أن النفس الكلية موجودة دون زمان، وهذا ما سأشرحه مفصلاً عند الحديث عن الزمان في الدهر، الذي لا يعلم مقداره إلا الله سبحانه في الزمن الأول قبل الخلق وفي الزمن الثالث في الآخرة. والذي يمكن التعبير عنه (بالمدة التي امتدت من أمره تعالى من الكن إلى فيكون)، وذلك قبل كينونة آيتي الزمان الشمس والقمر الدالتين على حساب الوقت. وهي تشكل نسبة مئوية ضئيلة جداً جداً... لا يدركها إلا هو تعالى لقلة مدتها الزمنية في تحقيق المراد (كن فيكون)، والتي يصعب على الإنسان تقديرها بأدق أدوات البحث التي توصل إليها، والتي سوف يتوصل إليها في نهاية الزمان.

ماهية الدهر

الدهر هو الأمد الممدود. وفي القرآن الكريم قال تعالى: \"هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً([7])\". وهو الوقت ما قبل خلق الإنسان، وهو متعلق بما قبل الخلق الأول الذي كان فيه أبو البشر آدم (عليه السّلام)، جسداً ترابياً دون روح. وهذا ما يدل على أن الدهر قبل الزمن، الذي لا يعلمه الناس إلا بعد ولادتهم وحين وعيهم به، وعَلِمَهُ آدم (عليه السّلام)، بعد خلقه، وذلك منذ أبدع الله الموجودات الأولى. والآية الكريمة هل أتى، هو سؤال تقريري، جاء في تفسير الطبرسي: \"لم يكن شيئاً مذكورا؛ لأنه كان تراباً وطيناً إلى أن نفخ فيه الروح، وعلى هذا (فهل) هنا استفهام يراد به التقرير، وهو على ألطف الوجوه وتقديره: أيها المنكر للصانع وقدرته أليس قد أتى عليك دهر لم تك شيئاً مذكوراً ثم ذكرت... والمراد بالإنسان هنا آدم([8])\".

وكذلك عندنا دهر آخر، هو في الآخرة لا يعلمه إلا هو أيضاً، بإعتبار أن الآخرة تشرق أنوارها من الله مباشرة مصداقاً لقوله تعالى: \"يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار([9])\". وأيضاً \"وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيءَ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق([10])\". ما يدل منطقياً على عدم وجود الشمس والقمر آيتي الزمان، المتقدم الحديث عنهما. وقد جاء في القرآن الكريم أن الشمس يوماً ما زائلة مصداقاً لقوله سبحانه \"إذا الشمس كورت([11])\". فإذا إنتهت الشمس بذهاب ضوئها بعملية التكوير، فإنه لا شك ذهب معها ضياء القمر؛ لأنه مستمد منها وأصبح كوكبه بحكم المتلاشي، باعتباره يعكس نور الشمس، فإذا فقد السبب، لم يعد للمسبب وجود.

فكل ما تقدم يدل على أن الخلق الأول، هو الذي يرمز إلى الدهر الذي يضم بين طياته كل الزمن، وتسميته بالدهر؛ لأنه غير معروف إلا من قبل الله وحده. وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام، في دعاء الصباح عند قوله: \"يا من دلَّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته، وجلَّ عن ملاءمة كيفياته، يا من ... صَلِّ على الدليل إليك في الليل الأليل... الثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول([12])\". فالزمن الأول هنا هو الدهر، أو ما يطلق عليه العالم العلوي، أو عالم النور، نور الله في الفلك المحيط، قبل خلقه لسائر الأفلاك والكواكب والنجوم الموجودات كلها.

 



[1]  الشرح: السنة الكبيسة، تأتي كل أربع سنوات، فيزداد يوماً إلى السنة العادية.

[2]  سورة المؤمنون، 23، آية 100.

[3]  سورة الذاريات، 51، آية 56.

[4]  سورة الفجر، 89، آية 1ـ2.

[5]  سورة الضحى، 93، آية 1-2.

[6]  سورة العصر، 103، آية 1-2.

[7]  سورة الإنسان، 76، آية 1.

[8]  الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، م.س، ص 406.

[9]  سورة ابراهيم، 14، آية 48.

[10]  سورة الزمر، 39، آية 69.

[11]  سورة التكوير، 81، آية 1.  

[12]  القمي، عباس، مفاتيح الجنان، ط 1، دار المحجة البيضاء، 2007، ص 101-102.