تربية وتعليم - رسالة من طفل إلى أمّه

06/09/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم المربيّة الحاجة نمرة حيدر أحمد (أم مصطفى)

إلى غاليتي ونور عيني

عذراً يا أميّ إن خاطبتك وأنا ما زلت أحبو في رحاب العمر، أتلمس طريقي في الحياة، ولكن ما فعلت هذا إلاّ لأمسك بيدك وأدخلك إلى عالمي، عالم الطّفولة الّذي ما عرفتِ عنه إلا النّزر اليسير، فانشغالك في أعمالك الماديّة منعك من الغوص في أعماقه واكتشاف أسراره.

أنا أدرك ياأمّي أنّك تتعبين وتشقين، وتخوضين غمار المتاعب والهموم من أجل رعايتي وتعليمي، ولكن أين أنا من كلّ ذلك ؟

إنّ حبّك لي وأحلامك التي أودعتها في مهدي، دغدغت في نفسك نشوة الأمل بمستقبلي الباهر فباتت قيداً يدمي طفولتي ويكبل انطلاقتي من حيث لا تدرين .

انتبه.. اجلس جيّداً.... لا تركض.... لا تلعب هناك...... لا تلهو بالماء...... حافظ على نظافة ثيابك..... نم باكراً...... كل كلّ طعامك....ابق جانبي...... انتبه كي لاتخطئ...... كم مرة يا أمي صفعت أحلامي قبل وجهي، وكم مرة زرعت الرّعب في قلبي وعدت إلى حضنك منكسراً، وطلبتِ إليَّ الاعتذار عن أمور أعتبرها حقًا من حقوقي كطفل.

وابل من الأوامر ينهمر فوق رأسي يومياً، وكأنك لم تحفظي من قاموس اللّغة والحياة إلاّ أفعال الأمر، ولم تطربي إلا لوقعها، حتّى أصبحت هذه الكلمات أشباحاً تقضّ عليّ مضجعي، وتلاحقني حتى في نومي وأحلامي، فأستفيق مذعوراً متلفتاً حولي وكأنني مذنب جانٍ.

أمّي أنت لا تعرفين أنني أرى الحياة من خلال عينيك، وأتزود لمسيرة عمري من عطفك وحنانك وأرتوي من منهل فضائلك وأحلامك. لذا يا أمّي ارحمي ضعفي وخففي من توبيخي وضربي بحجة تأديبي وتعليمي، كي لا أجعل الضّرب سلاحي في وجه من يخالف آرائي وميولي، وعلميني معنى التّسامح والمحبة.

لا تحولي تعبك وغضبك إلى كلمات قاسية جارحة تجعل قاموس لغتي في الحياة عامراً بما يخزي ويخجل، بل زوديني بكل لفظ جميل وخلق عظيم. لا تأسريني بأحلامك، واعلمي أنّ الحياة دعتني إليها وأودعت سرّها في عروقي، فباتت الدّنيا ضحكة في فمي، ولعبة بين يديّ، وبراءة تشع في عينيّ، وحركة تضفي على وجودي معنى الفرح.

في عالمي يا أمّي تتغير كلّ المقاييس والمعايير، وتلغى المسافات والفروقات، وينسى الزمن، ويختصرعالم الكبار فأنتقي منه ما أحب وألغي ما أكره، أنتحل شخصيّة من أشاء وكما أشاء، أكون أميراً أحارب الأعداء، أحقق الانتصارات، أنشئ جيشاً، أبني أسطولا أكون ملكا آمراً ناهياً، أكون بطل كل قصّة قرأتها وأحاول تلبّس شخصيته في واقعي وخيالي وأنت لست هنا.

تحاولين أخذ كلّ هذا مني دون أن تدري وبحجة أنني كبرت ويجب أن أتعلم قانون الكبار، لعبة اللياقات، لعبة تغيير حقيقتنا، لعبة تجميل الصّورة من أجل إرضاء الآخر وسماع إطرائه.

اتركيني يا أميّ «بالله عليك» أعيش طفولتي كما أشاء، واصبري عليّ، وحاولي أن تغرسي بذرة الخير في قلبي حتى تنمو في أعماقي وتكبر، فتصبح في المستقبل شجرة وارفة تظلّلك أنت وأبي عندما تكبران، فترد عنكما وهج الكبر، وقساوة حرارة الزمن.

هذه الرسالة نداء من القلب يا أمّي حملته طفولتي إليك، اقرائيها جيّداً، وأنعمي النظر في مضمونها تذكري طفولتك، ادخلي عالمي وشاركيني أحلامي وحاولي أن تشذبيها وصوّبي مسار ما انحرف منها. علميني كيف أدخل عالم الكبار من دون أن ألغي ما أحب ومن دون أن أغير طبيعتي، حصنيني بالقيم لأنّك ستحصدين نتاج غرسك في المستقبل.

دمت لولدك الذي ستسكنين قلبه مدى العمر.