النثر في عصر صدر الإسلام- كتاب نهج البلاغة للإمام عليِّ بن أبي طالب (ع) نموذجاً

15/4/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الكتابة في عصر النبوة

الحلقة الثالثة

بقلم د. يسري عبد الغني عبدالله(1)

تحديد المفهوم:

نقصد بالكتابة هنا: الكتابة الفنية التي تندرج تحت فنون النثر الفني والأدب، تلك الكتابة التي يعمد فيها مبدعها إلى نوع من التزيين الجمالي، وتوظيف الأساليب البيانية والبديعية والمتباينة للتعبير عن الأفكار والمعاني ، والكتابة الفنية في عهد النبوة تتنوع إلى نوعين: الرسائل والعهود.

الكتابة الفنية بين

العصر الجاهلي وعصر النبوة:

إن البيئة الجاهلية بعامة لم تتوافر بها دواعي الكتابة الفنية، إلا في بعض المناطق المجاورة للحضارات الفارسية واليونانية، فقد اقتصرت الكتابة عندهم على:  تسجيل معاملاتهم التجارية، وما يشبه ذلك من كتابة عهد، أو عقد حلف، في صورة بسيطة، بعيدة عن محاولة التأنق أو تحقيق قيمة من قيم الجمال الفني، ولسنا بهذا ننكر احتمال ظهور لون من الكتابة الفنية في الجاهلية، بل إننا نميل إلى ظهوره، خاصة في الممالك العربية المجاورة للحضارات الفارسية واليونانية  (2).

جاء الإسلام وحث على القراءة والكتابة منذ أول آية نزلت حيث قال سبحانه وتعالى : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (3).

نضيف إلى ذلك عناية الرسول  بالكتابة والقراءة، وحرصه الشديد على أن يتعلمها أبناء المسلمين الأوائل، كما هو بَيِّنٌ في خبر أسرى قريش في يوم بدر، حين أذن رسول الله  لمن لم يستطع فداء نفسه أن يكون فداؤه تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة.(4)

وقد تمثلت دواعي الكتابة في عصر النبوة

في ما يلي (5):

1 ـ حاجة المسلمين إلى الكتابة في تدوين القرآن الكريم

2 ـ حاجة المسلمين إلى كتابة الرسائل للدعوة إلى الإسلام

3 ـ حاجة المسلمين إلى الكتابة في شؤون الحرب والسلم، وكتابة العهود والمواثيق.

وإذا أنعمنا النظر في النصوص الكتابية لهذا العصر نجد أن الكتابة لم  تتجه إلى التحبير والتزيين، وتوظيف الصيغ الأسلوبية الجمالية بقدر ما تتجه إلى التعبير عن الأفكار والمبادئ بلغة محددة خالية من أي صيغة جمالية ربما تعوق عن توصيل هذه الأفكار والمبادئ، لأن الكتابة: إما رسالة رسمية تحمل إلى المرسل إليه أفكاراً محددة ينبغي أن يستوعبها المرسل إليه بسهولة ويرد عليها، وإما عهدٌ أو ميثاقٌ ينص على بنود معينة ملزمة يجب أن تكون واضحة لدى المعني بهذا العهد أو هذا الميثاق  (6).

نماذج من رسائل النبي  وتحليلها:

إذا تأملنا كتب (رسائل) الرسول  نجدها تتفرع إلى فرعين:

أ ـ كتبه التي كان يوجهها إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الدخول في الإسلام.

ب ـ عهوده ومواثيقه التي كان يكتبها للقبائل.

النموذج الأول:

رسالة الرسول محمد  إلى هرقل ملك الروم:

ومن رسائل الرسول ، رسالته إلى هرقل إمبراطور الروم، ونصها:  بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، اسلم تسلم، اسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون . (7)

التحليل:

ـ إن الهدف الأساسي للرسالة هو دعوة هرقل (قيصر) ملك الروم للدخول في الإسلام حتى يسلم بإسلامه، وحتى يجازيه الله خيراً عن إسلامه، وعن إسلام كل من سيسلم بإسلامه، ثم يدعوه إلى كلمة التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

ـ ظهر نوع من التقنين لنظام الرسالة في هذه الفترة، وذلك في البدء والختام، فقد بدأت الرسالة بالبسملة، ثم ذكر المرسل والمرسل إليه، وتقديم التحية له، كما اشتملت على عبارة  أما بعد  في صدر الغرض (الموضوع )، وقد ختمت الرسالة بآية من آيات الذكر الحكيم.

ـ نلاحظ على الرسالة الإيجاز الشديد، الذي يتجلى في قوله:  اسلم تسلم ، فتنطوي الكلمتان على ما جاء به الإسلام من سبل خلاص المسلم، وسلامته في الدنيا والآخرة.

ويرجع هذا الإيجاز إلى الهدف الذي من أجله كتبت الرسالة، وهو دعوة ملك الروم للدخول في الإسلام، وقد راعى الرسول  في تبليغه للدعوة الإسلامية حال المرسل إليه، فأراد أن يوصل إليه المعنى بسرعة دون أن يجد مشقة في إدراك هذا المعنى.

ـ خلت هذه الرسالة من الصور الخيالية التي ربما تعرقل من سرعة إدراك المرسل إليه للمعنى المراد توصيله إليه.

النموذج الثاني :

رسالة الرسول  إلى ملك دومة الجندل:

وكتب الرسول  إلى أُكيدر دومة، وهو ملك دومة الجندل رسالة نصها:  بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر دومة: إنا لنا الضاحية من الضحل والبور والمعاصي، وإغفال الأرض، والحلقة والسلاح، والحافر والحصن، ولكم الضامنة من الدخل والمعين من المعمور، لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، ولا يحذر عليكم البات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤدون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر من المسلمين  (8).

التحليل:

ـ استقر الدين الإسلامي واكتملت سياساته العامة، ومن ثم تناولت الرسالة السابقة تفصيل الحقوق والواجبات.

ـ بدأ التحبير يظهر في رسائل تلك الفترة، إضافة إلى وجوه تحسين الكلام، ومثال على ذلك السجع الذي نراه في الرسالة في قوله : لا تعدل سارحتكم، ولا تعد فاردتكم، وقوله أيضاً: تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤدون الزكاة بحقها، ونجد الموازنة في قوله:  عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء .

ـ إيثار الرسول  للفظة على أخرى، ونجد ذلك في اختيار لفظ (وخلع) بدلاً من كلمة (ترك)، أو ما يشبهها ففي الكلمة الأولى (خلع) معنى الترك، مع عدم العودة إلى عبادتها (عبادة الأصنام)، فخلع عبادة الأصنام يشير إلى التخلص نهائيًا من عبادة فاسدة، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والشعور بالحرية.

ـ وعلى الرغم من طول هذه الرسالة نسبياً عن سابقتها إلا أنها مالت في بعض جملها إلى الإيجاز بالحذف، كما في قوله :  لا تعدل سارحتكم أي: لا تعدل سارحتكم عن المرعى، وقوله: لا تعد فاردتكم ، أي: لا تعد فاردتكم في مال الصدقة.

ـ بدأت الرسالة بالبسملة، وذكر المرسل، والمرسل إليه، ثم عرض الموضوع، وختم الرسالة بإشهاد الله ومن حضر من المسلمين على ما ورد في تلك الرسالة.

السمات الفنية العامة للكتابة في عهد النبوة:

هناك خصائص فنية عامة للكتابة في عهد النبوة ،

يمكن إيجازها في ما يلي:

ـ ميل الكتابة في فترة العهد الأول للبعثة النبوية إلى البساطة والوضوح والتعبير المباشر عن المعنى، والبعد عن أساليب البيان إلا ما ورد دون قصد أو تعمد.

ـ الميل إلى الإيجاز غالباً في عرض الموضوع، بهدف التبليغ المباشر بالمضمون، مع مراعاة حال المرسل إليهم.

ـ ظهرت في كثير من نماذج الكتابة البنية النموذجية الشكلية للرسالة، والمتمثلة في: المقدمة / الغرض / الخاتمة، ومع ذلك فإن الرسول الكريم  لم يلتزم نمطاً واحداً في بدء رسائله أو ختامها إذ كان يفتتح بعضها بعبارة: من محمد رسول الله إلى فلان، والبعض الآخر بـ أما بعد أو البسملة أو  هذا كتاب من محمد رسول الله إلى فلان.

ـ كان يصدر كتبه بالسلام، فيقول للمسلم: سلام عليك أو  السلام على من آمن بالله ورسول ، ويقول لغير المسلم: سلام على من اتبع الهدى  وكان يتبع السلام بالحمد والاستغفار، وقد لا يتبعه بشيء منهما، كما كان يخلص إلى الموضوع بعبارة أما بعد، وقد لا يذكرها.

ـ أما ختام الرسائل فكان بالسلام على المسلم فيقول:والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، أو يقول: والسلام ، أما لغير المسلم فيقول: والسلام على من اتبع الهدى، وقد لا يذكر السلام نهائياً. (9)

المبحث الثاني

النثر في عصر الخلفاء الراشدين

تمهيد:

تطورت بعض الفنون النثرية مثل: الخطابة والكتابة الفنية تطوراً واضحاً في عصر الخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم)، فقد انتقلوا بالفنون النثرية إلى آفاق جديدة، هيأتها الظروف السياسية التي ألمت بالدولة، منها: وفاة الرسول ، وردة العرب عن الإسلام في خلافة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه)، والاضطرابات السياسية التي حدثت في الدولة الإسلامية وأدت إلى مقتل الخليفة / عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، ثم احتدام الصراع بين علي بن أبي طالب (ع)، ومعاوية بن أبي سفيان.

الخطابة في عصر الخلفاء الراشدين:

هيأت الظروف السياسية التي أشرنا إليها سابقاً والتي طرأت على الدولة بعد وفاة الرسول  إلى ازدهار الخطابة، فقد كثرت الخطب من دعاة الأحزاب، كل يدعو لصاحبه، ويدافع عن حقه في الخلافة، نضيف إلى ذلك كثرة الفتوحات الإسلامية في هذا العصر، وفي السطور القادمة سنلقي الضوء على نماذج من خطب تلك الفترة، ونقوم بدراستها دراسة فنية... إلى أن قال: النموذج الثاني: خطبة لـ عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) في الجهاد:

وسوف نذكر هذه الخطبة ونقوم بتحليلها في الفصل الأخير من الباب الثاني حيث سنقوم بتحليل نماذج أدب الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، انطلاقاً من نشأته وحياته والعوامل التي أثرت في شخصيته وأدبه وأغراضه وخصائصه، فلعلنا نوفق إلى ذلك بإذن الله تعالى.

السمات الفنية العامة للخطابة في عهد الخلفاء الراشدين:

تطورت الخطابة وتنوعت من ناحيتين:

أ ـ من ناحية الموضوعات :

تطورت الخطابة في عصر الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم وأرضاهم)، وتعددت أنواعها تبعاً للواقع السياسي للعصر، حيث استمدت موضوعاتها من هذا الواقع.

ـ فكان هناك الخطابة الدينية التي يدعو فيها الخطيب إلى تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، ويعظ المستمعين، ويرشدهم إلى الطريق الصحيح.

ـ وهناك الخطب الحربية التي تنهض في أوقات الحروب، وفيها يحض الخطيب مستمعيه على الجهاد في سبيل إعلاء كلمة التوحيد... إلى غير ذلك من الموضوعات.

ب ـ من الناحية الفنية:

ـ كان للقرآن الكريم أثره البارز في تهذيب الألفاظ، والابتعاد عن حوشيها وغريبها، وابتغاء السهل منها، بهدف التعبير عن المعنى بوضوح وسلاسة، واستخدامها في معانٍ أخرى غير المعنى الأصلي الذي وضعت له، فقد ألبسها الإسلام لباس الشرعية، مثل: الجنة، النار، الصلاة، الزكاة... وغير ذلك.

حاول الخطباء محاكاة القرآن الكريم في أسلوبه، فساروا على نهجه في حسن الأداء، واستمداد المعنى منه، والشواهد التي تدعم أفكارهم وآراءهم.

ـ التراوح بين الإيجاز والإطناب في خطب هذه الفترة، فالإيجاز في موضعه لتوصيل الفكرة من أقصر الطرق دون تعمد يذكر، وقد مال البعض إلى الإطناب إذا استدعى المقام ذلك، مثل: اضطراب الأحداث، واشتعال الحروب، وكثرة الفتن... للتأكيد على المعنى، وإقناع المستمعين بها.

ـ توظيف الأساليب البيانية والبديعية المختلفة في التعبير عن المعنى، لتوضيحه وتأكيده في نفس المتلقين.

ـ ظهرت في بعض الخطب البنية الأساسية للرسالة: مقدمة / عرض / خاتمة، ولم يلتزم الخطباء مقدمة أو خاتمة محددة، بل تنوعت المقدمة والخاتمة بتنوع المقام، وحال الخطيب والمتلقي ونوع الموضوع الذي يعرض له (10).

 

 

 

 

الهوامش:

(1) يسري عبد الغني عبدالله، « دراسات في نثر صدر الإسلام » القاهرة، 2011م.

(2) صلاح الدين الهادي، «الأدب في عصر النبوة والراشدين»، مكتبة الخانجي، القاهرة ص 135.

(3) سورة العلق: الآيات 1 ـ 5.

(4) ابن سعد،«الطبقات الكبرى»، ط. ليدن، 2 / 14، وكذلك: شوقي ضيف، العصر الإسلامي، ص 129.

(5) د. مصطفى الشكعة، «الأدب في موكب الحضارة الإسلامية (النثر)»، الدار المصرية اللبنانية، ص 194.

(6) د. حسن البنداري، «النثر الفني في عصر صدر الإسلام والعصر الأموي»، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ص 44.

(7) سورة آل عمران، ويمكن العودة إلى الرسالة في: أحمد زكي صفوت، جمهرة رسائل العرب، 1 / 34، وكذلك: الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 2 / 649.

(8) أحمد زكي صفوت، «جمهرة رسائل» العرب، 1 / 49 ـ 50.

(9) يسري عبد الغني عبد الله، «دراسات في نثر النبوة»، مرجع سابق.

(10) يسري عبد الغني عبد الله، «دراسات في نثر صدر الإسلام»، القاهرة، 2011 م.