وظيفة التربية في تكريس منظومة القيم الثقافيّةبقلم: الدكتور غازي أحمد مراد(1)

29/9/2015
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

تتجاوز كلمة «تربيّة» المفهوم الشائع في التفسير حيث أنّها لا تقتصر على جانب علمي أو دراسي، فهي منهج سلوكي له ارتباط بكل شؤون الحياة العامة، وهي في كل وظيفة وعمل ودور، وهي بحد ذاتها تفسير لكلمة \\\\\\\"قيم\\\\\\\" وما وظيفة التربية إلا لتعليم القيم التي نصّت عليها الرسالات السماويّة وجاء بها الأنبياء والرسل، ومن ثُمّ أنيط حَمْلها بأولي العلم وأرباب العقول، ودعا إليها الأدباء والشعراء والمثقفون الذين يشكلون القيادة الفكريّة والإنسانيّة للمجتمعات.

تمثّل منظومة القيم المكونات الأساسيّة التي تحكم سلوك الإنسان وتساعد على تحقيق التنمية بنواحيها المتعددة، حيث أنّها جاءت لجوانب الحياة، فإذا تمّ التمسّك بها تحقّقت السعادة البشريّة وتحقّق الأمن والرخاء.

والقيم ليست محددة في عمل أو دور، وهي أشمل من أن ترسم لها معالم أو تُحدد بأفعال لأنها قد لا تكون ظاهريّة، من حيث أنّها تبدأ من فكر الإنسان وقناعاته وشخصيته التي تنعكس في آرائه وتوجهاته وسلوكه، من هنا كان الوصف للإنسان يرتكز على مضامينه الجوهريّة وليس الشكليّة منها.

والحديث عن التربية يقودنا دون أدنى شك للحديث عن القيم الثقافيّة في الحياة، التي منها الوطنيّة والسياسيّة والدينيّة والإعلاميّة والأخلاقيّة والمجتمعيّة وغيرها وبأبعادها وأنواعها المتنوعة التي لها دور بارز في تحقيق الأمن ومواكبة التطور في جميع مجالات الحياة، ومواجهة ما يتعرّض له المجتمع من أفكار ومعتقدات ومذاهب هدّامة وتذويب قيمي وثقافيّ وغزوٍ فكري بأشكال متعددة، وتُعد التربية في حدّ ذاتها عملية قيمية، فالقيم التي ترْسم الفلسفات والأهداف وتوجه المؤسسات التربويّة ومناهجها موجودة وبدونها تتحول التربية إلى فوضى.

ولا شك أن تعليم وغرس القيم الثقافيّة هي مسؤولية يجب أن تُعنى بها جميع المؤسسات التربويّة بدءاً من الأسرة التي تُعَدّ أوّلَ مؤسسة تربويّة يتلقّى فيها الناشئ قيمه وأخلاقه وتتكّون شخصيتُه من خلالها، ثمّ المدرسة أولى مداميك الغرس الثقافيّ، ثُمّ الجامعة التي في داخلها تتبلور معايير الثقافة.

إنّ الإنسان وفق نظريّة التطور الفكري والثقافيّ لشخصيته يكتسب سلوكه الذي يعكس القيم في مراسه الحياتي من مصادر متعددة ويكون التأثر بها بالغا ًولو كان في حركة بطيئة نتيجة حراكه ووجوده ضمن بيئة لها طابعها الخاص ولها عاداتها وتقاليدها المرتبطة والتي تعتبر بعض المجتمعات أن الخروج عن العادات فيها وعن التقاليد هو خروج عن مفهوم قيمي متوارث، وهي كما أسلفت تبدأ من الأسرة والمجتمع المنزلي وما يدور فيهما من حوار أو ما يحصل من إشكالات في داخله.

 

ثُمّ هناك أيضاً التربية الإعلاميّة التي أصبحت اليوم تشكّل أهم عناصر التأثير في تبديل وتغيير المفاهيم وفق ما تقدّمه من برامج، أو تعلن عنه في وسائلها أو تُروِّج له، وقد تترك أثرها ليس فقط عند الصغار بل أيضاً لدى الكبار الراشدين. ومن البديهي أن يكون لكل عمل قواعدُ تحكم سلوكه ضمن إطار البعد الأخلاقيّ، بحيث يكون هناك حدودٌ وضوابط تكفل عدم الخروج عن المفاهيم القيميّة بما لا يمس أو يستفز، وهنا أيضاً لا بدّ من الإشارة إلى التربية السياسيّة ومفهوم الحراك السياسيّ الصحيح المنظّم الذي يدفع بإتجاه بناء قيم لا تُعدُّ وطنيّة فحسب بل تتعدّاها إلى الحضاريّة.

ثُمّ هناك مسؤولية تترتّب عن سوء استعمال وسائل التواصل الإجتماعيّ التي في مكانٍ ما الغت قواعد قيميّة كثيرة وأسهمت إلى حدٍ كبير في تفكيك قواعد العلاقة الأسريّة وأخذت كلَّ فرد إلى عالمه الخاص، فغاب النقاش المنزلي وغاب البحث والحديث العائليّ، وتلاشى الدور الرقيب.

أمّا الثقافة الأدبيّة التي بات بعضها اليوم يتكوّن وفق النزاعات والأهواء والرغبات أو غب الطلب بتغيير أوضح، فالأصيل منها قد اضمحلّت أركانه بفعل ربطه بالسياسة أو بالمتنفذين وأصبح الهدف لدى غالبية كبرى مرتكزاً على انحياز أو لذاتية مفرطة في الظهور، بالشعر الذي كنّا نحفظه لنتغنى به أو لنستحضره في مناسباتنا، والذي تنوع بين الحكمة والرجاء ومنه النصح والإرشاد حتى الغزل والوجدان والفخر والهجاء أصبح عند فئة شيئاً معيباً ونهجاً قديماً لا قيمة له وحلت محله أحرفٌ ورموزٌ لا يُفقه منها شيء، وغاب عنه البيان والموسيقى والشعور الدافع له وأصبحت كلُّ كتابةٍ شعراً، فأين أصبح النثر إذن؟ والطرب الذي كنا ننتشي بسماعه لحناً وكلمةً بات سبباً من أسباب أزمتنا العربيّة لأنّه لا يدفعنا للرقص. أمّا الحوار والحديث والخطاب فلم يعد ذاك الذي تتوق إليه الأرواح وتعشقه القلوب وينعش الأنفس ويشدك إليه برقي فحواه ونفيس مضمونه، أو ليس هذا انهيار في القيم الأدبيّة ؟.

وغيرها وغيرها من حقول الثقافة، والأزمة إلى مزيد من التفاهم في ظل غياب قواعد المثل، فيتحمل وزرها الناشئة، حيث أُفلتت الأمور من عقالها وغابت الضوابط، انتهى الرعاة واتجهت الأهداف إلى مادية الوجود.

إنّ الأزمات التي يتخبط بها العالم وتحديداً عالمنا العربيّ هي قبل كل شيء في غياب القيم وذوبان المعايير الحقيقيّة والمقاييس الموضوعيّة للأمور، والحلول لا يمكن أن تسلك إلى أذهان وعقول النّاس ما لم تكن هناك نهضة ثقافيّة حقيقيّة تستعيد الإرث المبدع في الفكر الإنسانيّ وتسعى إلى إعادة منظومة التربيّة الكاملة والشاملة والنقيّة ليعود الإنسان قادراً على العطاء الهادف المجرّد من النزاعات والغرائز والميول والذاتيّة، بعيداً عن الغاية التي ترسّمت في بعض ثقافات لا ارتباط لها بتاريخ وحضارة.

إنّ التربيّة هي الأساس في التطور، وهي التي تضع الخطوط العامة والرئيسة في السلوك البشري، ويقيني أن ما من أزمة تظهر إلا وأسبابها تعود لخلل في القيم، وانفراط في عقد العدالة الإجتماعيّة والدوليّة، والحكم على الأمور وفق المصالح.

وإذا كان التردي في القيم يعود إلى مشكلة تربويّة، فالمشكلة الأكبر هي في الإنسان نفسه، الذي هو المسؤول عن تربيّة نفسه قبل سواه.

 

وإني إذ أحيي القيمين على هذا المؤتمر في المعهد العالي ووزارة الثقافة حيث جوهر الأزمة القيميّة، فإنني أدعو إلى عقد مؤتمرات مماثلة ومتكررة، وتعميم فكرة النهوض القيمي محلياً وعربياً لأنّها جزء من الحلول لأزمات متعددة.