مـن سمات شخصية الإمام الحُسينّ (ع)

20/1/2017
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم د . يسري عبد الغني عبد الله (1)

ولد الإمام الحسين بن عليّ (ع) في بيت كان محطّ الملائكة ومهبط التنزيل، في بقعة طاهرة تتصل بالسّماء طوال يومها بلا انقطاع، وتتناغم مع أنفاسه آيات القرآن الكريم التي تُتلى آناء الليل والنهار، وترعرع بين شخصيّات مقدّسة تجلّلت بآيات الله، ونهل من نمير الرسالة عذب الارتباط مع الخالق، وصاغ لُبنات شخصيته نبيُّ الرحمة (ص) بفيض مكارم أخلاقه وعظمة روحه .

فكان الحسين (ع) صورة لمحمّد (ص) في أُمتّه، يتحرّك فيها على هدى القرآن الكريم، ويتحدّث بفكر الرسالة، ويسير على خُطى جدّه العظيم ليبيّن مكارم الأخلاق، ويرعى للاُمّة شؤونها، ولا يغفل عن هدايتها ونصحها ونصرتها .

جاعلاً من نفسه المُقدّسة اُنموذجاً حيّاً لما أرادته الرسالة والرسول (ص)؛ فكان (ع) نور هدىً للضالّين، وسلسبيلاً عذباً للراغبين، وعماداً يستند إليه المؤمنون، وحجّة يركن إليها الصّالحون، وفيصل حقّ إذ يتخاصم المسلمون، وسيف عدل يغضب لله ويثور من أجل الله، وحين نهض كان بيده مشعل الرسالة الذي حمله جدّه النبي (ص) يدافع عن دينه ورسالته العظيمة .

ومن الإمعان في شخصيّة الإمام الحسين (ع) الفذّة نتلمّس السمات التالية :

أوّلاً ـ تواضعه (ع)

جُبل أبو عبد الله الحسين (ع)، على التواضع ومجافاة الأنانية، وهو صاحب النّسب الرفيع، والشّرف العالي، والمنزلة الخصيصة لدى الرّسول (ص)، فكان (ع) يعيش في الأُمّة لا يأنف من فقيرها، ولا يترفّع على ضعيفها، ولا يتكبّر على أحد فيها، يقتدي بجدّه العظيم المبعوث رحمةً للعالمين، يبتغي بذلك رضا الله وتربية الاُمّة، وقد نُقلت عنه(ع) مواقف كثيرة تعامل فيها مع سائر المسلمين بكلّ تواضع، مظهراً سماحة الرسالة ولطف شخصيّته الكريمة، ومن ذلك :

إنّه (ع) قد مرّ بمساكين وهم يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) على كساء، فسلّم عليهم، فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم، وقال: لولا أنّه صدقة لأكلت معكم، ثمّ قال: قوموا إلى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم.

وروي: أنّه (ع) مرّ بمساكين يأكلون في الصُّفَة ، فقالوا: الغداء، فقال (ع)، إنّ الله لا يُحبّ المتكبّرين، فجلس وتغدّى معهم، ثمّ قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني. قالوا: نعم. فمضى بهم إلى منزله وقال لزوجته: أخرجي ما كنتِ تدّخرين (2).

ثانياً ـ حلمه وعفوه (ع)

تأدّب الحسين السّبط (ع) بآداب النبوّة، وحمل روح جدّه الرّسول الأعظم (ص) يوم عفا عمّن حاربه ووقف ضد الرسالة الإسلاميّة، لقد كان قلبه يتّسع لكلّ النّاس، وكان حريصاً على هدايتهم متغاضياً في هذا السبيل عن إساءة جاهلهم، يحدوه رضى الله تعالى، يقرّب المذنبين ويطمئنهم ، ويزرع فيهم الأمل برحمة الله، فكان لا يردّ على مسيء إساءة، بل يحنو عليه ويرشده إلى طريق الحقّ وينقذه من الضلال .

فقد روي عنه (ع) أنّه قال : لو شتمني رجل في هذه الأذن ـ وأومأ إلى اليمنى ـ واعتذر لي في اليسرى لقبلت ذلك منه؛ وذلك أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) حدّثني أنّه سمع جدّي رسول الله (ص) يقول: لا يرد الحوض مَنْ لم يقبل العذر من محقّ أو مبطل (3).

كما روي أنّ غلاماً له ارتكب جنايةً كانت توجب العقاب، فأمر بتأديبه، فانبرى العبد قائلاً: يا مولاي، والكاظمين الغيظ . فقال (ع)، خلّوا عنه، فقال: يا مولاي، والعافين عن النّاس . فقال (ع) : (قد عفوت عنك، قال: يا مولاي، والله يحبّ المحسنين. فقال (ع): أنت حرّ لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك (4).

ثالثاً ـ جوده وكرمه (ع)

وبنفس كبيرة كان الإمام الحسين بن عليّ (ع) يعين الفقراء والمحتاجين، ويحنو على الأرامل والأيتام، ويثلج قلوب الوافدين عليه، ويقضي حوائج السّائلين من دون أن يجعلهم يشعرون بذلّ المسألة، ويصل رحمه دون انقطاع، ولم يصله مال إلاّ فرّقه وأنفقه، وهذه سجيّة الجواد وشنشنة الكريم وسمة ذي السّماحة.

فكان يحمل في دُجى الليل البهيم جراباً مملوءاً طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى حتّى شهد له بهذا الكرم معاوية بن أبي سفيان، وذلك حين بعث لعدّة شخصيات بهدايا، فقال متنبّئاً: أمّا الحسين فيبدأ بأيتام مَنْ قُتل مع أبيه بصفّين، فإن بقي شيء نحر به الجزور وسقى به اللبن(5)

وفي موقف مُفعم باللّطف والإنسانيّة والحنان جعل العتق ردّاً للتحية، فقد رُوي عن أنس أنّه قال: كنت عند الحسين فدخلت عليه جارية بيدها طاقة ريحان فحيّته بها، فقال لها: أنتِ حرّة لوجه الله تعالى.

وانبهر أنس وقال: جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟! فقال (ع) : كذا أدّبنا الله، قال تبارك وتعالى: ( وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) سورة النساء، الآية 86، وكان أحسن منها عتقها (6).

ومن كرمه وعفوه أنّه وقف (ع) ليقضي دَينْ أسامة بن زيد، وليفرّج عن همّه الذي كان قد اعتراه وهو في مرضه (7)، رغم أنّ أسامة كان قد وقف في الصفّ المناوئ لأبيه أمير المؤمنين (ع) .

ووقف ذات مرّة سائل على باب الحسين (ع)وأنشد قائلاً :

لم يخب الآن من رجاك

ومن حرَّك من دون بابك الحلقة

أنت جواد وأنت معتمد

أبوك قد قاتل الفسقة

فأسرع إليه الإمام الحسين (ع) وما أن وجد أثر الفاقة عليه حتّى نادى بقنبر، وقال متسائلاً : ما تبقّى من نفقتنا ؟ .قال: مئتا درهم أمرتني بتفرقتها في أهل بيتك . فقال (ع) :هاتها فقد أتى مَنْ هو أحقّ بها منهم. فأخذها ودفعها إلى السائل معتذراً منه، وأنشد قائلاً :

خذها فإني إليك معتذر

واعلم بأني عليك ذو شفقة

لو كان في سيرنا الغداة عصًا

أمست سمانا عليك متدفقة

لكن ريب الزمان ذو غير

والكف مني قليلة النفقة.

فأخذها الأعرابي شاكراً وهو يدعو له (ع) بالخير، وأنشد مادحاً :

مطهرون نقيات جيوبهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا

وأنتم أنتم الأعلون عندكم

علم الكتاب وما جاءت به السور

من لم يكن علويًا حين تنسبه

فما له في جميع الناس مفتخر (8)

رابعاً ـ شجاعته (ع)

إنّ المرء ليعجز عن الوصف والقول حين يطالع صفحة الشّجاعة من شخصية الإمام الحسين (ع)؛ فإنّه ورثها عن آبائه وتربّى عليها ونشأ فيها، فهو من معدنها وأصلها، وهو الشّجاع في قول الحقّ والمستبسل للدفاع عنه، فقد ورث ذلك عن جدّه العظيم محمّد (ص) الذي وقف أمام أعتى قوّة مُشركة حتّى انتصر عليها بالعقيدة والإيمان والجهاد في سبيل الله تعالى .

ووقف مع أبيه أمير المؤمنين (ع) يُعيد الإسلام حاكماً، وينهض بالأُمَّة في طريق دعوتها الخالصة، يُصارع قوى الضلال والانحراف بالقول والفعل وقوّة السّلاح؛ ليعيد الحقّ إلى نِصٍابه .

ووقف مع أخيه الإمام الحسن (ع) موقف الأبطال المضحّين من أجل سلامة الأُمَّة، ونجاة الصّفوة المؤمنة المتمسّكة بنهج الرسالة الإسلاميّة .

ووقف صامداً حين تقاعست جماهير المسلمين عن نصرة دينها أمام جبروت معاوية، وأزلامه والتيار الذي قاده، ولم يخشَ كلّ التهديدات، ولا ما كان يلوح في الأفق من نهاية مأساوية نتيجة الخروج لطلب الإصلاح، وإحياء رسالة جدّه النبيّ (ص)، والوقوف في وجه الظلم والفساد، فخرج وهو مسلّم لأمر الله وساع لابتغاء مرضاته، وها هو (ع) يردُّ على الحرّ بن يزيد الرياحي حين قال له: اُذكّرك الله في نفسك؛ فإنّي أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ، ولئن قوتلت لتهلكنّ فقال له الإمام أبو عبد الله (ع) أبالموت تخوّفني؟! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟! ما أدري ما أقول لك، ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه :

سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى خيرًا وجاهد مسلمًا

وواسى رجالاً صالحين بنفسه

وخالف مثبورًا وفارق مجرمًا

فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم

كفى بك ذًلاً أن تعيش وَتُرغَمَ (9)

ووقف (ع) يوم الطفّ موقفاً حيَّر به الألباب وأذهل به العقول، فلم ينكسر أمام جليل المصاب حتّى عندما بقي وحيداً، فقد كان طوداً شامخاً لا يدنو منه العدوّ هيبةً وخوفاً رغم جراحاته الكثيرة حتّى شهد له عدوّه بذلك، فقد قال حميد بن مسلم : فو الله، ما رأيت مكسوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه؛ إن كانت الرجّالة لتشدُّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا اشتدّ عليها الذئب (10).

خامساً ـ إباؤه (ع)

لقد تجلّت صورة الثائر المسلم بأبهى صورها وأكملها في إباء الإمام الحسين (ع) ورفضه للصبر على الحيف والسّكوت على الظلم، فسنّ بذلك للأجيال اللاحقة سُنّة الإباء والتضحية من أجل العقيدة وفي سبيلها، حين وقف ذلك الموقف الرسالي العظيم يهزّ الاُمّة ويشجّعها أن لا تموت هواناً وذلاً، رافضاً بيعة يزيد بن معاوية قائلاً : إنّ مثلي لا يبايع مثله .

وها هو يصرّح لأخيه محمّد بن الحنفيّة مجسّداً ذلك الإباء بقوله (ع): ( يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية (11).

ورغم أنّ الشيطان كان قد استحكم على ضمائر النّاس فأماتها حتّى رضيت بالهوان ، لكن الإمام الحسين (ع) وقف صارخاً بوجه جحافل الشرّ والظلم من جيوش الردّة الأموية قائلاً : والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد، إنّي عُذت بربّي وربّكم أن ترجمون (12).

لقد كانت كلمات الإمام أبي عبد الله الحسين (ع) تُعبّر عن أسمى مواقف أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات، كما تنمُّ عن عزّته واعتداده بالنفس، فقد قال (ع) : ( ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدعيَّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلة ! يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام (13).

وهكذا علّم الإمام الحسين (ع) البشرية كيف يكون الإباء في المواقف، وكيف تكون التضحية من أجل الرسالة .

سادساً ــ الصراحة والجرأة في الإصحار بالحقّ:

لقد كانت نهضة الإمام الحسين (ع) وثورته بركاناً تفجّر في تأريخ الرسالة الإسلاميّة، وزلزالاً صاخباً أيقظ ضمير المتقاعسين عن نصرة الحقّ، والكلمة الطيبة التي دعت كلّ الثائرين والمخلصين للعقيدة والرسالة الإسلاميّة إلى مواصلة المسيرة في بناء المجتمع الصالح وفق ما أراده الله تعالى ورسوله (ص) .

وقد نهج الإمام الحسين (ع) منهج الصراحة والمكاشفة، موضّحاً للاُمّة الخلل والزيغ والطريق الصحيح، فها هو بكلّ جرأة يقف أمام الطّاغية يحذّره ويمنعه من التمادي في الغيّ والفساد ... فهذه كتبه (ع) إلى معاوية واضحة لا لبس فيها ينذره ويحذّر من الاستمرار في ظلمه، ويكشف للأُمَّة مدى ضلالته وفساده (14) .

وبكلّ صراحة وقوّة رفض البيعة ليزيد بن معاوية، وقال ـ موضّحاً للوليد ابن عتبة حين كان والياً ليزيد: إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلُّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم ... ومثلي لا يبايع مثله (15).

وكانت صراحته ساطعة مع أصحابه ومَنْ أعلن عن نصرته، ففي أثناء المسير باتّجاه الكوفة وصله نبأ استشهاد مُسلم بن عقيل وخذلان النّاس له، فقال (ع) للذين اتّبعوه طلباً للعافية: قد خذلنا شيعتنا، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام .(16) فتفرّق عنه ذوو الأطماع وضعاف اليقين، وبقيت معه الصفوة الخيّرة من أهل بيته وأصحابه، ولم يُخادع ولم يُداهن في الوقت الذي كان يعزُّ فيه الناصر .

 

 

 

ملحق الإمام (ع)

 

الهوامش:

(1) باحث وخبير في التراث الثقافي Yusri_52@yah(ع)(ع).c(ع)m

(2) «أعيان الشيعة » : 1 / 580، « تاريخ ابن عساكر»: ترجمة الإمام / الحسين (عليه السّلام)، ح 196،«تفسير البرهان» : 2 / 363

(3) «إحقائق الحق»: 11 / 431

(4) «كشف الغمة»: 2 / 31، و «الفصول المهمة لابن الصباغ»، ص 168 مع اختلاف يسير، و «أعيان الشيعة»4 / 53

(5) حياة الحسين 1 / 128، عن «عيون الأخبار»

(6) «كشف الغمة» 2 / 31، و «الفصول المهمة» / 167

(7) «بحار الأنوار» 44 / 189، و «مناقب آل أبي طالب» 4 / 65

(8) «تاريخ ابن عساكر» 4 / 323، و «مناقب آل أبي طالب» 4 / 65

(9) «تاريخ الطبري» 4 / 254، و«الكامل في التاريخ» 3 / 270

(10) «أعلام الورى» 1 / 468، و «تاريخ الطبري» 5 / 540

(11) «الفتوح» ، لابن أعثم 5 / 23، و «مقتل الحسين»، للخوارزمي 1 / 188

(12) «مقتل الحسين»، للمقرّم ص 280 ، و «تاريخ الطبري» 4 / 330، و «أعلام الورى» 1 / 459، و «أعيان الشيعة» 1 / 602

(13) «أعيان الشيعة» 1 / 603، و «الاحتجاج»2 / 24، و «مقتل الحسين»، للخوارزمي 2 / 6

(14) «الإمامة والسياسة» 1 / 189 و 195

(15) «الفتوح» 5 / 14 ، و «مقتل الحسين» للخوارزمي 1 / 184 ، و «بحار الأنوار» 44 / 325

(16) «الإرشاد» 2 / 75 ، و «تاريخ الطبري» 3 / 303 ، و «البداية والنهاية» 8 / 182، و «بحار الأنوار» 44 / 374