العلاّمة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله (قده) في الذكرى السادسة لغيابه

06/09/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الدكتور بديع أبو جودة

معرفتي بسماحة العلاّمة المرجع السيد محمد حسين فضل الله رجل المبرّات تعود الى التسعينيات من القرن العشرين. زرته مع عشرين من أصحاب المدارس الافرادية الخاصة باسم النقابتين التابعتين لهم...

أولوني شرف التكلم باسمهم ...وكان صدر قرار وزاري «بتساوي الرواتب في كل المدارس ».

انتهزت الفرصة لأهدي الى السيد العلاّمة كتابين من مؤلفاتي ... واستمحت زملائي لأقرأ مقطعاً بعنوان «طفولة نبيِّ ومواسم سعادة » من كتاب «على دروب السعادة » ... وكان الجدال قائماً في «من يضع الحجر الاسود »؟ وكاد الناس يتشابكون بالإيدي .. وإذ دخل رسول الله، مُحمّد، وكان شاباً يسيِّر أعمال الثَريِة الفاضلة خديجة، صرخوا جميعاً: هذا الأمين رضينا بحكمه!

ونحن، سماحة السيد، جئنا بدورنا نقول لكم: هذا الأمين سنرضى بحكمه... وأفتى: لا يجوز تقييد حرية التعليم، ولندع «مادتنا الرمادية » ـ وهي ثروتنا الاولى تحلق طليقة!..

ونقل رأيه مع آراء نواب كثيرين وفاعليات وألغي القرار، بعد مناقشته في اللجنة البرلمانية التربوية، وقد شاركت في إبداء رأي النقابتين فيها.

وفوجئت بعد أشهر بالشيخ فيصل عبد الساتر يدعوني، من قبل سماحته، الى اطلالتين اذاعيتين من خلال إذاعة «البشائر » وإذاعة «النور» عن «دربك لكل قلب» وكان في طبعته الثامنة و «على دروب السعادة »!

رحمات الله على الروح الزكيَّة الطاهرة الآمنة البارّة.

يا لفقيد سعة العلم، والمثابرة، على المطالعة، ومثال العالم الفقيه، وصاحب الأدب الرفيع...

يا مفكراً مجدداً، بالانفتاح على كل آخر، بالتسلح بالاعتدال، والتمسك بمبادئ الحوار!

يا أحد أعمدة الحكمة .. عباءتك التي تجلببت بها حضنت مؤمنين وأيتاماً ومحتاجين الى زاد اليد، وأكثر، الى زاد النفس!

لقد أوجدت مساحة تصالحيّة بين الدين والدنيا عبرت بها الطوائف والمذاهب ... وغدوت نصير الانسان والحقّ والعدالة والتحابّ والتآخي ... الداعية الى ما يجمع وينبذ ما يفرِّق.

مرجع، أنتم ... والشراكة الحقيقية تقوم على التفاهم والقناعة واعتماد التشاور والتشبّث بالوحدة للتغلّب على كل تشرذم وانقسام...

وقبل كل هذه الالقاب والصفات كنت الأب الرحيم، والمرشد الحكيم، والسند القوي لكل ضعيف...

ودعوتنا ان نكون عشاق لقاء مع الله، ومن أهل الصبر والعزم... وتجشَّمت العذاب والامراض وارتضيتها محبة بالله.

وبالعودة الى سيرتك الذاتية نعرف ان والدك السيد عبد الرؤوف كان رجل علم وفقه بدوره، وقد قصد النجف الاشرف في العراق ومكث طويلاً لمزيد منهما... ولدت هناك وسرت على خُطاه وتفوقت في كل ما قمت به..؟

وعدت الى عيناتا، بلدتك في لبنان وأخذت تفجِّر مواهبك والمعطيات:

مسيرة حافلة بالجهاد لإعلاء كلمة الحق وشؤون الدين وعزة الوطن.

غدوت بعصاميتك، وعشت ايمانك وتقواك، آية الله العظمى، صلاتك ابتهالات لم تفارق شفتيك والقلب، وذِكرُ الله على لسانك وفي الاعماق، وهموم الأمّة شاغلك الدائم...

اجتهاداتك الفقهية طالت المحرّمات المتوارثة، اعتمدت علم الفلك لاثبات الشهور القمريّة، صبوت ان ترى الاسلام اكثر تسامحاً وأكثر اعترافاً بالآخر، رفعت من مستوى المرأة فهي ندّ للرجل، أفتيت بطهارة كل إنسان، حرّمت ضرب الرؤوس في مراسم عاشوراء، ملأت الزمان إنسانية وأغنيتها بأي فكر جديد!

ومن مشاريعك رد الاسلام الى الحوار العالمي الثقافي المعاصر... حللَّت أكل ثمار البحر وحرَّمت التدخين فبدوت بيئياً مميزاً، تركت خلفك العمل الصالح، أشعرت الناس بوجود الله معهم من خلال توافر الدواء والكسوة والتعليم.

أنشأت مؤسسات رعائية: «جمعيّة المبرّات الخيرية» ترعى أربعة آلاف يتيم سنوياً، مدرسة أكاديمية، معاهد مهنية فنية، عدداً من المؤسسات الثقافية، وأربعين مسجداً ... أضف الحوزات العلمية والمكتبات العامة وقاعات المحاضرات والمستوصفات الخيرية ... وأسرتك هي أسرة التآخي!

أحببناك أديباً، فقيهاً، واعظاً، محاوراً بلغة المنطق والعقل، وأحببناك شاعراً غزلياً، حوَّلت شعرك الى التغزل بالله والنجاوى والاحلام الرعوية، الايمانية، والحكمة.

من مؤلفاتك ودراساتك التي بلغت الخمسة والسبعين نذكر: على طريق الاسلام، من وحي القرآن، الحوار في القرآن، الحوار الانساني الانساني، فقه الشريعة وآخرها «في دروب السبعين ».

لقد أغنيت المكتبات العربية بما يبني وينشر الوعي الاسلامي فضلاً عن تدعيم الوحدة الوطنية والعيش المشترك وترسيخ قيم الاعتدال والعقلانية وترسيخ الحوار بين الحضارات والاديان، والمقاومة اللبنانية ذوداً عن سيادة لبنان واستقلاله الكامل الناجز على جميع أراضيه.

لقد كنت حقاً إماماً مميزاً ليس فقط لطائفتك، بل لكل المتنوّرين في لبنان والعالم...

تعرّضت لأكثر من محاولة اغتيال، وعندما نُصحت بأن تنتقل بعيداً الى منزلك في الشام قلت: لن أتخلى عن أهلي: «ما بترك الناس »!.

والتفت حولك زوجتك وأبناؤك الاحد عشر في مستشفى «بهمن»، وهو من منجزاتك، أصبت بفيروس في كبدك ... وداء السكري والقلب وعانيت طويلاً، أخفيت ألمك، لم تغب عن واجباتك الدينية، وعظتك، ولو بصوت متهدج، لم تخف ميلك الى المزاح ... سألت عن المساكين في الجمعية، ناجيت ربك، خاطبته شعراً:

أركض علّني ألتقيه في صحوة الشمس

وأحيا شروقه في الاصيل.

 

الهوامش:

(1) عن صحيفة «البلد» الصادرة في بيروت، 22 تموز 2016م. ص 30.