ملحق تاريخي: الحلقة المنسيّة في تاريخ محافظة كسروان وجبيل (1)

25/3/2019
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم القاضي الدكتور الشيخ يوسف محمد عمرو

انتشر الإسلام في لبنان بشكل عام منذ العام 15 هـ الموافق لعام 636 م. وذلك على إثر الفتح العربيّ الإسلاميّ في عهد الخليفة الثاني عُمر بن الخطاب.

وقد شاركت في فتوحات الساحل اللبناني قبائل عربية عريقة ومشهورة بتشيّعها للإمام عليّ t، وكان من أبرز هذه القبائل: خُزاعة، وهمدان، وربيعة، وطي، وأسد، وغيرها.

وقد شارك وساهم في هذه الفتوحات أيضاً بعض الصحابة الأعلام والمعروفين بولائهم للإمام عليّ t، منهم على سبيل المثال: هاشم بن عُتبة بن أبي وقّاص الملقّب (بالمرقال)، والذي انحدر من ذريته عشائر تنسب إليه من كلا الديانتين المسيحية والإسلامية. وهذا الأمر معروف بين المؤرخين الّذين اشتغلوا بتاريخ هذه المنطقة كسروان وجبيل.

وقيل بأن الصحابيِّ الجليل أبو ذرّ الغفاري قد شارك أيضاً في فتوح صور وفي غزو قبرص إنطلاقاً من طرابلس، حيث توجد ثلاثة مساجد أثرية ما تزال قائمة وتحمل اسمه في بلدتي ميس الجبل، والصرفند على الساحل اللبناني في جبل عامل، كذلك يوجد مسجد صغير في مزرعة حلاّن التابعة لبلدة غدراس في منطقة فتوح ـ كسروان.

ومن هؤلاء الصحابة أيضاً: (أبو الدرداء)، الذي تولى القضاء في بيروت في عهد معاوية بن أبي سفيان. وأبو الدرداء، وبحسب الروايات التاريخية قد زاره سلمان الفارسي المعروف بالمُحمّدي عام 26 هـ الموافق لعام 646م.

وبناءً على ما تقدّم، يكون الوجود الإسلامي قد انتشر في محافظة كسروان وجبيل اعتباراً من العام 15 هجري، وقد تميّز هذا التواجد منذ أيامه الأولى بوجود بعض الزَّهاد والمتصوفة في جبال لبنان. الموالين للإمام عليّ t.

ويستدلُّ على المعنى المتقدم آنفاً، من خلال الروايات التي تتحدث عن استشهاد الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عُديس أبي مُحمّد البلوي في جبل لبنان، والتي تقع ضمنه محافظة (كسروان وجبيل)، وذلك بأمر من معاوية.

وهذا الصحابي هو من الصحابة الموالين للإمام عليِّ t، ومن الذين بايعوا النبيّ w، تحت الشجرة، وهذه البيعة معروفة في الأدبيات الإسلامية بـ ( بيعة الرضوان). وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه البيعة في سورة الفتح، الآية 18، بقوله تعالى:

}لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً{.

ومن الأدلة الإضافية، والتي تعضد المعنى المتقدم ذكره، ما رواه العديد من المؤرخين حول تردد بعض أصحاب أئمة أهل البيت i، الى هذه المنطقة. منها ما رواه ونقله الدكتور عُمر عبد السلام التدمري حول زيارة بشر بن الحارث أبو نصر المعروف (بالحافي) أو (الزاهد) الى بلاد كسروان وجبيل. وبشر (رض) هو من تلامذة الإمام موسى بن جعفر الكاظمo.

وأيضاً، إبراهيم بن أدهم بن منصور وكنيته أبو اسحاق البلخي، وهو من المحدثين والزّهاد الذين تتلمذوا على الإمام جعفر بن مُحمّد الصادق o.

وسكن أبو اسحاق البلخي في مدينة صور في جبل عامل للمرابطة في سبيل الله ، كما يوجد في مدينة جبيل مسجد أثري صغير يقع في ميناء الصيادين حالياً يُنسب إليه، وبهذا دليل على تواجده ومرابطته وتدريسه وتحديثه عن شيوخه عن رسول الله w، في مدينة جبيل في القرن الثاني الهجري وهذا ما يؤكده الدكتور عُمر عبد السلام تدمري، في كتابه «لبنان من قيام الدولة العبّاسية حتى سقوط الدولة الأخشيديّة». وأبو اسحاق البلخي معروف أيضاً في الأوساط الإسلامية السُنيّة كعلم من أعلام الزهد والتصوّف.

كما ذكر السيد مُحمّد يوسف الموسوي أسماءً للعديد من الزهّاد والعبّاد والرهبان. في جبل لبنان، وذلك على حلقات وردت في مجلة «إطلالة جبيلية»، لا يمكن إيرادها أو ذكرها في هذه العجالة. ولعلّ المقامات الموجودة في بعض قرى بلاد جبيل تؤكد ذلك وهي: مقام النبيّ هدوان في جرود بلدة أفقا، ومقام النبيّ شمعون في جرود بلدة لاسا، ومقام النبيّ إسماعيل في بلدة حجولا، وكهف النبيّ عاج في نبع طورزيا التابع لبلدة علمات هي لأولئك الأبدال الأوائل. غير أنّ عامّة المسلمين أطلقوا عليهم لقب الأنبياء جهلاً بالحقيقة التاريخيّة.

وإذا ما أردنا استعراض هذا الوجود الإسلامي في بلاد كسروان ـ جبيل، وتحديداً التواجد الشيعي فيها، وبشكل زمني تصاعدي، فيكفي في ذلك بعض الإشارات والمحطات التي نقلها الدكتور التدمري في كتابه ( لبنان من قيام الدولة العباسية حتى سقوط الدولة الأخشيدية)، وكتابه الآخر عن «الحياة الثقافيّة في طرابلس الشام في العصور الوسطى». حيث تحدّث عن هذا الحضور والتواجد الإسلامي الشيعيّ والسُنّي في مُختلف المراحل التاريخية، والمؤرخ العلاّمة السيّد حسن الأمين في دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعيّة، منها:

أيام الدولة الفاطميّة: حيث امتدَّ نفوذهم وقويت شوكتهم في القرنين الرابع والخامس للهجرة، وذلك في بلاد الشام، وخاصة في إمارة ودولة بني عمّار في طرابلس عام 462 هـ الموافق 1070 م، ولغاية سقوطها بأيدي الجيوش الصليبية عام 502 هـ الموافق 1109 م.

وقد تكلّم المؤرخ السيّد حسن الأمين عن هذه الدولة (بني عمّار) لجهة مساحتها الجغرافية حيث شملت بالإضافة الى طرابلس، جبيل، العاقورة وجونية، وحتى تخوم بيروت جنوباً. كما تكلّم عن أحوالها وعناية أمرائها بالمعرفة والعلوم والفنون حتى أضحت تعرف طرابلس باسم (دار العلم).

ويضيف السيد الأمين: (وقد كان شعراء الشام يفدون إليها لمدح أُمراء بني عمّار، ونيل جوائزهم، فيلقون الترحيب والتكريم، وكثرت حلقات التدريس فيها، وازدحمت المدينة بأشهر العلماء من أدباء، وفقهاء، وشعراء، ولغويين، وغيرهم من الّذين وفدوا إليها من كل مكان).

وينقل الأمين أيضاً عن أحوال المكتبة فيها، وذلك عن المؤرخ للحروب الصليبية ستيفن ريتسمن، بالقول:«(إنها أصبحت أروع مكتبة في العالم، وعندما سقطت طليطلة في الأندلس في أيدي القشتاليين عام 478/هـ/1085م، هاجر فريق من علمائها الى طرابلس، وكان منهم: أحمد بن مُحمّد أبو عبدالله الطليطلي، فاحتضنه بنو عمّار، وجعلوه متولياً على (دار العلم) ـ بالإضافة الى جملة من كبار العلماء، أمثال: الحسين بن بشر بن علي بشر، وأسعد بن أبي روح، وغيرهما الكثير».

وحول ازدهار الزراعة والصناعة فيها، يقول الأمين: «والفرنج عرفوا قصب السكر لأول مرة في طرابلس، فنقلوا غروسه الى جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا، كما كان من انجازات بني عمّار إنشاء مصانع الورق، حيث كان الورق السمرقندي هو المشهور في العالم الإسلامي آنذاك بجودته، فإذا بالورق الطرابلسي يفوقه جودة».

أمّا بالنسبة الى الفكر الإسلاميّ الإمامي في تلك الحقبة، فقد تعزّز التشيع الإمامي الإثنا عشري في إمارة بني عمّار، من خلال تواجد علماء كبار من تلامذة الشيخ المفيد المرجع الأكبر للشيعة الإمامية في العراق وبلاد المشرق، وكانت مدرسته في بغداد أيام الدولة البويهية تشكل مرجعاً لجميع علماء بغداد على اختلاف مذاهبهم. وقد برز من تلامذته: المحقق أبو الفتح الكراكجي، والقاضي عبد العزيز ابن البرّاج الطرابلسي، وغيرهما من الأعلام الّذين استوطنوا طرابلس أيام بني عمّار.

وكان من أشهر علماء كسروان في طرابلس آنذاك: الشيخ أسعد بن عُمر بن مسعود الجبلي، وهو من تلامذة أبي الفضل أسعد بن أبي روح الطرابلسي.

وقد كان للشيخ الجبليّ دور كبير في التصديّ لعقائد وشبهات الإسماعيلية، والنصيرية، والردِّ عليهم لوجود بعضهم وانتشارهم بين الشيعة في كسروان وغيرها من المناطق. وكذلك كان اسماعيل بن روح الجبيلي الذي روى عنه أبو علي مُحمّد بن سليمان بن حيدرة الاطرابلسي واسماعيل بن حصن وروى عن عُمر بن هاشم البيروتي وغيرهم من الرواة والمحدِّثين الّذين ينتسبون إلى مدينة جبيل من السُنَّة والشيعة. وفي تلك الفترة أيضاً، نبغ علماء (بني عود)، وهم من قبيلة بني أسد العربيّة في كسروان، وذلك أيام الصليبيين.

وقد تعزّز الوجود العلمائي للشيعة في كسروان بالعصور الوسطى بهجرة السادة الأشراف من ذرية الإمام موسى بن جعفر الكاظم o، من بغداد، بعد سقوطها بأيدي المغول سنة 656 هـ، الموافق 1258م. ومن كربلاء على دفعتين، واستوطنوا بلدة قمهز الكسروانية التي تعلو عن سطح البحر 1300م.

حيث عرفت بلدة قمهز من خلالهم تاريخياً ببلدة قمهز الأشراف، ومن أعلام هؤلاء السادة كان الأمير يوسف الموسوي الحائري، والسيد الرئيس تاج الدين أبو الحسن الموسوي، وهو الجدُّ الأعلى للسادة الأشراف الموسويين في جبل عامل، وهم آل أبي الحسن، وآل شرف الدين، وآل الصدر، وآل نور الدين، وغيرهم.

كما انتقل السيّد مُحمّد شاه بن عليّ بن حسين بن مُحمّد بن الأمير يوسف الموسويّ الحائريّ من قمهز إلى بلدة حراجل القريبة منها، واستوطنها مع ذريته.

كما تعزّز هذا الوجود بحضور الفقيه الشيعي الكبير المجاهد ابن ملّي الأنصاري البعلبكي، مع أنصاره من المجاهدين البعلبكيين، الّذين اتخذوا كسروان، وجبل لبنان، وجبال بعلبك، موطناً مؤقتاً لهم. وكانوا من خلاله يهاجمون المغول الذين احتلوا دمشق وبعلبك في الليل، ويختطفونهم، وقد انضمّ إليه عشرة آلاف مجاهد يعملون بأوامره، حتى استطاعوا بعد مدة من الكفاح والجهاد إجبار المغول أي (التتار) على الإنسحاب من بعلبك وسهل البقاع. كما أرّخ ذلك القاضي الدكتور الشيخ مُحمّد جعفر المهاجر في كتابه «ستة فقهاء أبطال».

كما تعزّز أيضاً بمجيء ذرية عليّ بن مهزيار من أصحاب الإمام عليّ بن موسى الرضا o، الى بلدة حراجل الكسروانية، وكذلك مجيء آل الأحواضي الحارثيين وهم من ذريّة الحارث الأعور الهمداني إلى بلدة حراجل، « وهو من أصحاب الإمام عليِّ t، ومن أبطال معركة صفين». الّذين استوطنوا بلدة حراجل أيضاً. وقد نبغ منهم الشيخ مفيد الدين الأحواضي المتوفى سنة 674 هـ، والموافق لعام 1275م. وغيره من الأعلام.

 

أمّا في أيام المماليك

وأيام المماليك في جبل لبنان، وبلاد كسروان، وجبيل بشكل خاص، كانت أشدُّ الأيام سواداً. حيث أصدر ابن تيمية فتواه الشهيرة باستباحة دماء شيعة كسروان وجبل لبنان، ورافق تلك الجيوش الآتية من دمشق وفلسطين وطرابلس، نافخاً فيهم روح العصبية الجاهلية. وشاركهم في ذلك أمراء بيروت والشوف (الدروز) من آل تنوخ مع عشائرهم وأنصارهم.

وحصلت هذه الواقعة الكبرى والملحمة العظمى في يوم الإثنين من شهر مُحرَّم الحرام سنة 705 هـ، الموافق لعام 1305م. وكان نتيجتها القضاء على الوجود الإسلامي الموالي لآل مُحمّد (صلوات الله وسلامه عليهم) في جبال لبنان بشكل عام، وفي كسروان بشكل خاص، وعلى السادة الأشراف من آل رسول الله w. وقضية «شير البنات» تحكي تلك المأساة، حيث أقدمت أكثر من أربعين عذراء على الإنتحار في ذلك المكان المُطلُّ على قرية قرقريا، قبل أن يصل إليهن جيش المماليك الغاشم، وحتى يلقين وجه الله تعالى وهنّ نقيات الجيوب طاهرات من العيوب.

وبقية الشيعة الذين ظلّوا في كسروان بعد هذه الواقعة، كآل المقدّم، وآل المستراح، وغيرهما من عائلات عاشت التقيّة على مذهب الإمام الشافعي (رض)، مع إخوانهم من القبائل التركمانية، الذين أتى بهم المماليك وأسكنوهم مدينة غزير، والسواحل البحرية، وبعض القرى الكسروانية، حفظاً لها من الفرنجة الصليبيين.

وقد نبغ من الشيعة الذين تركوا كسروان وهاجروا منها علماء بني عَود «والوارد ذكرهم في فتوى ابن تيمية والّذين انضموا الى حوزة جزين في جبل عامل، وكذلك حوزة كرك نوح في البقاع. وأما السادة الأشراف من آل الموسوي، فأسسوا نقابة الأشراف في بعلبك. وحوزة دينية صغيرة أخرى في بلدة سكيك في جبل الشيخ، البقاع الغربي، وسواهم من بقية علماء الإجازة لدى الإماميّة مثال السيّد نور الدين عليّ الكركيّ الهاشميّ أحد مشاهير علماء الإجازة مع أبيه وجده وغيرهم من السادة الهاشميين».

وكان شيخ المهاجرين الكسروانيين الفقيه الكبير أبو علي الكسرواني، الشيخ الحسن بن أحمد بن يوسف الكسرواني، المعروف بابن العشرة الكسرواني، والذي كان شيخ حوزة كرك نوح البقاعية والمتوفي سنة 868 هـ.الموافق لسنة 1457م. وسادة المهاجرين أيضاً كان الشريف السيد حسين بن موسى بن علي بن حسين بن مُحمّد بن موسى ابن الأمير يوسف الموسوي الحائري الكسرواني، أول نقيب للأشراف في بعلبك، ومؤسس وقفية السيدة زينب إبنة الإمام عليّ o في غوطة دمشق، ثم عقبه السيّد عليّ، ثم عقبه ولده في النقابة العلاّمة السيد علوان، وهو أشهرهم على الإطلاق.

وأمّا ذريّة السيّد مُحمّد شاه الموسويّ في بلدة حراجل فقد هاجروا إلى مزرعة كفرذبيان، ومنها صعوداً إلى جبل ترشيش هبوطاً نحو بلدة كرك نوح في البقاع، ومنها إلى بلدة النبيّ ايلا «وهو من أنبياء بني اسرائيل»، حيث استوطنوها وحافظوا على وقفيّة هذا المقام الشريف وولايته لغاية أيامنا هذه، وهم المعروفون بآل أمين السيّد. وقد التقى الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته البقاعيّة بشيخهم السيّد عبد الكريم الموسويّ.

أيام العثمانيين

وفي أيام الأمير عسّاف التركماني والي غزير، أي في أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، أتت العشائر الحمادية الشيعية الى بلادنا، وهي من بلاد حمّاد في سوريا، حيث تعود جذورها الى قبيلة مذحج الشيعية اليمنيّة في بلاد بخارى العجم، واستوطنت كسروان والفتوح، وجبة المنيطرة، وبلاد جبيل، والبترون بإذن من الأمير عسّاف، الّذي قام بتولية الشيخ سرحال حماده على بلاد جبيل حيث أصبحت هذه الجبال تسمى بجبال سرحال لأكثر من مائة عام عند العثمانيين والمستشرقين كما ذهب إلى ذلك الدكتور سعدون تنال حمادة في أطروحته عن تاريخ الشيعة.

وكانت أيام المشايخ آل حمادة، والعشائر المتحالفة معهم في هذه البلاد أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، ولغاية أيام الأمير يوسف الشهابي الموافق لعام 1763م، بين مدّ وجزر، أفضلها كانت أيام الأمراء آل عسّاف التركمان، وأيام الأمراء آل سيفا الأكراد.

وكان أصعبها على الإطلاق أيام الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير، حيث أَقدم بعض مشايخ كسروان من قبله بالتآمر على الوجود الشيعي في حراجل وقمهز والقرى المجاورة لهما، مستعينين بوالي دمشق العثماني على تهجير مُعظم الشيعة من كسروان والفتوح، وافتعال بعض المذابح. وكذلك كانت أيام والي طرابلس قبلان باشا حيث أحرق قرانا ومزارعنا سنة 1660م. وكذلك أيام حسن باشا والي طرابلس، الّذي أحرق قرانا ومزارعنا أيضاً سنة 1676م. وكذلك أيام الأمير يوسف الشهابي سنة 1763،حيث أقدم على عزل جميع المشايخ الحماديّة، ومصادرة ممتلكاتهم، وتسليمها للآخرين، وطردهم من هذه البلاد.

وكذلك كانت أيام طانيوس شاهين وعصاباته من الفلاحين في عام 1860م، وقد تكلّمت عن ذلك في كتابيّ «صفحات من ماضي الشيعة وحاضرهم في لبنان»، بإيجاز وإختصار. وتكلّم عن ذلك بالتفصيل المؤرخ سعدون تنال حماده مع ذكر الوثائق والمصادر في أطروحته الجامعيّة في باريس تحت عنوان:«تاريخ الشيعة في لبنان».

ومن العائلات العلميّة التي نبغت من بلاد جبيل أوائل العصر العثمانيّ وذلك أيام آل حماده كان آل الجبيلي، وأشهرهم على الإطلاق كان العلاّمة الشاعر الرحالة الشيخ نجيب الدين علي الجبيليّ، والذي دوّن رحلاته إلى بلاد المشرق والحجاز، والعراق وإيران، والهند شعراً في 2500 بيت من الشعر. ذكره الإمام السيّد محسن الامين الحسينيّ العامليّ في «أعيان الشيعة قائلاً عنه: من أكابر علماء عصره، ساح في مختلف البلدان» إلى أن يقول عنه :«من أساتذته الشيخ حسن صاحب المعالم، السيّد مُحمّد صاحب المدارك، الشيخ بهاء الدين العامليّ. تلامذته: ولده الشيخ مُحمّد، السيّد مُحمّد المفتي بأصبهان، الشيخ أبو عبدلله الحسين بن الحسن بن يوسف ظهير الدين العامليّ».

قدوم السادة الحسينيين

وعائلات عامليّة أخرى إلى بلادنا

كما استعان مشايخ آل حمادة بالسادة من آل زهرة الحسينيين من بلدة كرك نوح البقاعية، والتي تعود جذورهم إلى بلدة الفوعة شمال مدينة حلب، وكذلك كانت جذور بعضهم الآخر من مدينة كربلاء العراقيّة، وأسكنوهم بلدة قمهز الكسروانيّة للإرشاد الدينيّ وقراءة المجالس الحسينيّة. وقد نبغ منهم في بلدة قمهز:السيّد حسين الحسينيّ كافل اليتامى، والذي تعهد بتربيّة أيتام السادة بعد أن قام العسكر العثمانيّ بذبح الأهالي وتهجيرهم عن قمهز. وقبره مشهور في بلدة قمهز كان يُزار من قبل السادة، وسائر أهالي تلك البلاد، طالبين من اللّه تعالى الشفاء «ولعلّ تلك الأيام كانت في عهد فخر الدين المعني الثاني الكبير» كما تقدم آنفاً.

وقد هاجر السادة إلى البقاع، وقسم منهم هاجروا إلى مزرعة دير عوزه قرب قرطبا في أيام الأمير فخر الدين المعني الآنفة الذكر. وفي أيام الأمير يوسف الشهابي، جرى تعيين العلاّمة السيد حسين الحسينيّ قاضي مذهب للشيعة في جبال كسروان والفتوح وشمال لبنان. وكان السيّد حسين عالماً مُجتهداً وأديباً شاعراً درس في النّجف الأشرف. إهتمّ بالتدريس وتربية الأجيال توفاه الله تعالى عام 1856م. عن خمسة وسبعين عاماً. وكان قضاة الشيعة من أولاده وأبناء عمومته، مرجعاً للشيعة وللمسيحيين في كسروان وشمال لبنان. ومن هؤلاء القضاة الأعلام، الّذين ينبغي الكتابة عنهم وتحقيق ما تركوه من تراث علمي وأدبي:

2. القاضي السيّد موسى الحسينيّ كان فقيهاً وشاعراً.

3. القاضي السيّد علي الحسينيّ وهو من تلامذة العلاّمة المجتهد الشيخ حسين زغيب البعلبكي مؤسس ورئيس حوزة يونين البقاعيّة.

4. القاضي السيّد حسين الحسينيّ، «نجل النائب السيّد مُحمّد يونس الحسينيّ» وهما من بلدة بشتليدا الجُبيليّة.

5. القاضي السيّد مُحمّد الحسينيّ.

6. القاضي السيّد علي الحسينيّ.

7. القاضي والنائب والوزير السيّد أحمد مصطفى الحسينيّ. وهو آخر قضاة المذهب في العهد العثمانيّ. حيث عيّن بعدها نائباً في عام 1915م. من قبل جمال باشا السّفاح.

8. القاضي السيّد مُحمّد إبراهيم الحسينيّ تولى القضاء في محكمة برج البراجنة الشرعيّة الجعفريّة في برج البراجنة في الثلاثينيات من القرن العشرين.

وممّا يسترعي الإنتباه في سيرة القضاة الثمانيّة من آل الحسينيّ في كسروان وجبيل، أنّهم كانوا مرجعاً للشيعة والمسيحيين في المشكلات والمُعضلات كما تقدّم. وكذلك قاموا بإحياء المجالس الحسينيّة في محافظة كسروان وجبيل، وفي بلدة شمسطار البقاعيّة، وفي الشياح، وبرج البراجنة من ضاحية بيروت الجنوبيّة، وبيت شاما والسعيدة ومدينة بعلبك وبلدتي مقنة وشعث في البقاع بالتعاون مع أولاد عمهم من السادة الموسويين.

وكذلك كان ديدن وشأن أول مُفتٍ جعفري ممتاز لبيروت وجبل لبنان، العلاّمة السيّد حسين مُحمّد الحسينيّ، المتوفى في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وهو صهر العلاّمة المجتهد الشيخ حسين همدر على كريمته. حيث ترجع جذوره إلى بلدة مزرعة السيّاد. والذي قام آنذاك باستصدار مرسوم جمهوري لتوظيفه في أواسط القرن الماضي كان ابن عمه الوزير السيّد أحمد مصطفى الحسينيّ.

ومن العائلات العامليّة الشيعيّة الأخرى التي أتت إلى بلادنا: آل همدر، والتي تعود جذورهم إلى قبيلة همدان العراقيّة، وسكنوا بلدة بشتليدا. وقد نبغ منهم فضيلة الشيخ حسن صالح همدر المتوفى سنة 1881م. حيث تولى منصب نائب عن الشيعة في مجلس قائمقاميّة النصارى في جبل لبنان في عهد الأمير بشير أحمد أبي اللمع منذ عام 1845م. ولغاية عام 1860م. وكذلك عُيّن الشيخ عثمان الحسامي نائباً عن المسلمين السُنّة في جبيل، وبقيّ الأمر كذلك لغاية الفتنة الطائفيّة ما بين الدُروز والمسيحيين في عام 1860م. قام أثناءها الشيخ حسن همدر بإبعاد الشيعة والنأي بالنفس عن ذلك والإيعاز للشيعة في هذه البلاد بالهجرة إلى البقاع، كما ذهب للقاء مع الباب العالي العثمانيّ بإسطنبول، وعاد بالإعتراف الرسمي بالمذهب الجعفري في جبل لبنان(2). من الدولة العثمانيّة والدول الأوروبيّة من خلال نظام المتصرفيّة الجديد الذي أعلن عام 1861م. لجبل لبنان. كما عُيّنّ عضواً في محكمة الجزاء في بعبدا وكُلّف بكتابة تقرير عن الخسائر التي مُني بها الشيعة في أحداث 1860م، وصنّف كتاباً في ذلك طُبع في المطبعة العثمانيّة في بعبدا.

كما عُين نائباً عن الشيعة لمدة عامين في نظام المتصرفيّة من عام1866م. ولغاية عام 1868م. كما نبغ من ذريّته وأولاد عمومته شخصيّات علمائيّة أهمهم كان العلاّمة المجتهد الشيخ حسين همدر، صهر الإمام المرجع السيّد محسن الأمين على إبنته. وقد توفاه الله تعالى في النّجف الأشرف في الأربعينيات من القرن الماضي، كما نبغ غيره من الأعلام كان منهم ولداه الشيخ نعمة الله، مُستنطٌق صيدا والجنوب، والشيخ مُحمّد جعفر الأديب والشاعر والديبلوماسي. حيث عمل قنصلاً للسفارة العراقية في حلب وغيرها من مناصب، له كتاب «برّ الوالدين» وديوان شعر غير مجموع، وكتاب مخطوط آخر عن تاريخ اليمن وحاضرها وقبائلها. ويقول الباحث السيّد مُحمّد يوسف الموسويّ لعلَّ آل همدر هؤلاء هم من ذريّة علماء بيت الأحواضي الهمدانيين علماء بلدة حراجل الكسروانيّة الآنفة الذكر.

ومن العائلات العامليّة الوائلية الشيعيّة الأخرى التي أتت إلى بلادنا في أواخر القرن السادس عشر الميلاديّ، الشيخ أحمد الميس الوائليّ من آل عليّ الصغير، والمعروف بالشيخ أبي حيدر النمس، الذي تولى بلاد جبيل مع الشيخ حسن الحسامي من قبل والي طرابلس العثماني حسن باشا سنة 1676م. وسكن قرية الحصون في وادي علمات، وتخلّف بالمشايخ آل عَمرو، آل أبي حيدر، آل قيس، آل مرعب. وقد تكلّم الدكتور عبد الحافظ شمص في كتابه (المعيصرة وعشيرة آل عَمرو الوائلية بين الماضي والحاضر) عن الذين نبغوا من ذرية الشيخ أحمد الميس منذ سنة 1676م. ولغاية ايامنا هذه في بلدتي المعيصرة، والحصون، والبقاع، وضاحيّة بيروت الجنوبيّة.

وأهمها كان وجود شهداء من آل عَمرو منذ عام 1700م. ولغاية عام 2017م. كما جاء في كتاب «المعيصرة وعشيرة آل عَمرو الوائليّة بين الماضي والحاضر»، دفاعاً وجهاداً في سبيل الله تعالى وللمحافظة على كرامة المواطن والوطن. وأوّل أولئك الشهداء الأبرار كان الشهيد الحاج حسين العَمرو المعروف في تاريخ جبل عامل بالحاج حسين المرجي. وكان مُدّبراً للشيخ مشرف من آل علي الصغير. والذي تخلّف بآل مرجي وآل حيدر في قعقعيّة الجسر وزبدين وبليدا وغيرها من قرى. إستشهد في سجن رسلان باشا أو قبلان باشا الوزير العثماني في عكا، في سنة 1112هـ. الموافق لسنة 1700م. وقبره في قعقعية الجسر مشهور ومعروف. أرّخ له أحد الشعراء بالكتابة على قبره:

«لتَبكِ حُسيناً مُقلةُ المجد والندى

وتندبه سُمُر القنا والبواترُ

سقى قَبرهُ فيض الغمام عشيةً

وَباكرهُ صَوبٌ من المُزنِ هامِرُ

لقد حلَّ فيه مَاجِدٌ وابنُ مَاجدِ

خَبيرٌ في طَرفِ العُلى ماهِرٌ

جَوادٌ كريمٌ قلت فيه مؤرخاً

حسينٌ بن عَمرو للكريم مُجاورُ».

ومما جاء ذكره من الأعلام في كتاب «كسروان في قلب التاريخ إلى شرفة الألف الثالث من المعيصرة الشيخ حمود سعد الدين عَمرو (عضو مجلس الإدارة في عهد المتصرفية)، وخلفه نسيبه في هذا المنصب كاظم الحاج عَمرو، والشهيد علي الحاج عَمرو ابن الشيخ حمود (أعدمه جمال باشا في أيار 1916م)، والشهيد حسن ابن النائب كاظم الحاج عَمرو (أعدمه العثمانيون إبان الثورة العربية 1916م).

كما أنّ هناك عائلات عامليّة أخرى أتت إلى بلادنا أيام آل حمادة وسكنت في ربوعنا، وكان لها الأثر الطيب في العمران وطلب العلم والعمل الصالح أهمها، آل العيتاوي في بلدة لاسا، وآل حمدان، وآل حجازي في بلدة المغيري، وغيرهم من عائلات كريمة.

وأمّا الكلام عن الحلقة المنسيّة في تاريخ المسلمين السُنّة في مُدن جبيل وجونية وغزير وغيرها من قرى إسلاميّة سُنيّة، منذ الفتح الإسلاميّ ولغاية تاريخه فيحتاج الحديث عنها إلى مقالة أخرى. نستنبط مصادرها من موسوعة علماء المسلمين في لبنان خلال أربعة عشر قرناً لفضيلة الدكتور عُمر عبد السلام تدمريّ ومن خلال وثائق المحكمة الشرعيّة في طرابلس، وغيرها من مصادر قديمة وحديثة».

 

الهوامش:

1.    (1) هذا البحث مأخوذ من كتيب لرئيس التحرير تحت عنوان «نبذة موجزة عن مشروع حوزة وكليّة الإمام موسى بن جعفر الكاظم o، للدراسات الإسلاميّة، ومكتبة القاضي الدكتور الشيخ يوسف محمد عمرو العامّة» في بلدة المعيصرة، فتوح ـ كسروان، المؤرخ في 12/10/2018م. الموافق 3 صفر 1440هـ. وقد أجريت مراجعة جديدة لهذه المقالة مع بعض التعديلات للعدد (37 ـ 38) من مجلة «إطلالة جُبيليّة».

2.    (2) أخبرني سيادة المطران شكرالله حرب مطران بعلبك للطائفة المارونيّة عندما زارني في المعيصرة مُعزيّاً بالمرحوم والدي الحاج محمد جعفر عمرو في أواخر عام 1990م. أنّ للبطريرك بولس مسعد المتوفى عام 1890م. اليد البيضاء في اعتراف الدولة العثمانيّة بحقوق الطائفة الشيعيّة في نظام متصرفيّة جبل لبنان عام 1860م. وذلك أثناء كلامه عن مستقبل لبنان وحقوق الطوائف في مقابلته للسلطان العثمانيّ آنذاك.

المصادر

ـ «دائرة المعارف الإسلاميّة الشيعيّة» للمؤرخ السيد حسن الأمين.

ـ «الحياة الثقافيّة في طرابلس الشام خلال العصور الوسطى» د. عُمر عبد

السلام تدمري.

ـ «لبنان من قيام الدولة العباسية حتى سقوط الدولة الإخشيدية» د.عُمر عبد

السلام تدمري.

ـ «ستة فقهاء أبطال» للدكتور الشيخ محمد جعفر المهاجر.

ـ «أعيان الشيعة» العلاّمة المرجع السيّد محسن الأمين.

ـ «تاريخ الشيعة في لبنان» د. سعدون حمادة.

ـ «كسروان في قلب التاريخ الى شرفة الألف الثالث» منشورات الأودوسيّة ـ صربا.

ـ «معجم أعلام جبل عامل» الأستاذ عليّ داود جابر.

ـ «المعيصرة وعشيرة آل عَمرو الوائليّة بين الماضي والحاضر» د. عبد الحافظ

شمص.

ـ «المسلمون الشيعة في جبيل وكسروان» للدكتور علي راغب حيدر أحمد. دار

الهادي 2007م.

ـ «صفحات من ماضي الشيعة وحاضرهم في لبنان» القاضي د. الشيخ يوسف

مُحمّد عَمرو.

ـ «التّذكرة أو مذكرّات قاضٍ» القاضي د. الشيخ يوسف مُحمّدعَمرو.

ـ «الكشّاف في مراقد السّادة الأشراف في بلدة قمهز» للقاضي الشيخ د. يوسف

محمد عمرو.

ـ مجلة «المنهاج» (العدد الأوّل 1996م)، الصادر في بيروت.

ـ اعداد متفرقة من مجلة «إطلالة جُبيليّة».