الحديث عن بني عمّار وعلماء الشيعة في طرابلس وكسروان وبعلبك

29/9/2015
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الحلقة الثالثة

بقلم: السيد محمد يوسف الموسوي

تمهيد

لو شئنا الحديث عَمَّن وصلنا خبره بإيجاز، يبقى مجال من التدقيق في مصادر من أخبرنا بحال العالم الفلاني وسواه، من التوسع المطول إلى المقتضب المجتزأ، واستناداً إلى نظريات من سبقنا من أهل التتويج والترويج أن كل ما كان من سٍيَر الرجال التي وصلتنا من تعدد المؤرخين سيّما مع المعاصرة والمزامنة كان دقيقاً أكثر ممّا لو وصلتنا من المتأخرين عنهم. وبديهي أن الحديث ذو شجون ولا غنى عن روايات من تلاهم من أهل الطبقات في مسايرة رواياتهم والحضّ عليها، ووضع مقارنة مناسبة تلازم المقام في حال هذا أو ذاك، وغني عن القول أن تعدّد الرواية من لدن المعاصرين دليل سلامة وضبط حسن، وأن من جاء بعدهم في تكرار الخبر سيبقى دون فائدة، ويُعِّد مضيعة للوقت والجهد وهدراً للطاقة.

ومن المفيد التنبيه إلى عدة أمور، تبقى في حيز متابعة ومواصلة البحث والتنقيب عن أسباب نجاح أو فشل هذا وذاك، من هُنا نبعت أهمية من إستحقوا التوقف والتأمّل وإعمال العقل والفكر في السباحة في مكامن القوة والضعف لدى هؤلاءِ الأعلام من الرجال العلماء وسواهم من رجالات النفوذ والقوة أو الضعف وعلى اية خلفية إعتمدوها في سبيل الوصول إلى ما أهّلهم لدخول سِفر التاريخ واحتلالهم مساحة من صفحات وأوراق كتب أهل الأحوال في متابعتنا وتقصينا لسيرهم في كتب أهل التاريخ لزوم دخولهم في صفحاتهم.

صعود وسعود بني عمّار حكام طرابلس

قديماً نبحر في عباب البحار، نغوص مع أهل الغوص، نشمّر عن سواعدنا ونرمي قصبة الصيد في مرمى حركة السَمَكْ، ونرصد خطوة هذا الفوج مع شدة الموج، ونتتبع أي حركة مهما كانت بطيئة من أي سمكة تحاول إلتهام طُعمها غافلةً أن يكون فيه هلاكها،(أيضاً ومثله ونحوه)، نعمل مع أخبار وتراجم وسيرَ الطبقات ورجالاته نقتفي أثر من سَلكَ سبيلاً أثار فينا الإهتمام لقوةٍ فيه ونأخذ بمعالجة أو معالجة مكامن ما أفرزه هذا الرجل القوي، من إثبات الذات وإبراز مكامن النجاح وقراءة أسباب أي تراجع أو فشل، يُصادفنا في سيرته أو مسيرته، تماماً كما هو إتجاه وحركة السمك الطائش في البحر.

ومعلوم لكل ذي عقل، أنّ لأي محاولة من المحاولات لإستقراء سِيَر أهل الحظوة من خلال إستجلاء ما كتبه عنهم المعاصرون لهم أو المتأخرون عنهم من ضبط وجمع وتحقيق وتعليق، من الجُهد المستفيض والتتبع والبحث والإفاضة حتى نستجمع تصوراً محدداً، مكوناً لحالة من تستطلع أحواله ونستقرئ في هذه المتابعة والمواصلة، أحاول من جديد سَبْرَ غور التاريخ، واستجلاء ما غمض عن أعين المؤرخين معاصرين أو تابعين ولاحقين. لأجل

إماطة اللثام عن مكامن تعيين أسباب نجاح أو فشل بنو عمّار كواحِد من القوى النافذة وأسباب هذا النجاح ودراسة أسباب التراجع والقهقرى، وما تركوه من آثار ومخلفات..

أول بروز لبني عمّار، كان في أحد الروافد الشيعيّة الصاعدة آنذاك، وهي الدولة الفاطميّة العبيديّة، الّذين كان مبدأ أمرهم أن مُحمّداً الحبيب بن جعفر المُصَدّق، بن محمد المكتوم بن إسماعيل الإمام بن [الإمام] جعفر الصادقt، بن [الإمام] محمد الباقرt، بن [الإمام] علي زين العابدينt، بن [الإمام] الحسين السبطt، بن [الإمام] علي بن أبي طالبt، رضي الله عنه، كان مُقيماً بسلميّة من أعمال حِمْص، وكان أهل شيعتهم بالعراق واليمن وغيرهما يتعاهدونه بالزيارة إذا زاروا قبر [الإمام] الحسين t، فلما أدركته الوفاة عهد إلى إبنه عبيدالله وقال له: أنت المهديِّ وتهاجر بعدي هجرةً بعيدة وتلقى مِحنة شديدة(1).

وتبعه من خَلَفِهْ خلقٌ استلموا الأمور وبسطوا سلطانهم في مصر من الدولة الكافوريّة والأخشيديّة. وجاء عهد خلافة الحاكم بأمر الله وهو أبو علي المنصور بن العزيز بالله ولُقِّب بالحاكم بأمر الله وجلس يوم الخميس سلخ شهر رمضان سنة 386هـ وعمره يومئذٍ إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر. ودخل إليه جماعة من مقدّمي كتامة وشرطوا لأنفسهم ألا ينظر في أمورهم أحد من المشارقة، فندب شيخاً من شيوخهم يقال له الحسن بن عمّار، للنظر في الأحوال وتدبير الأمور، ولُقّب بأمين الدولة يوم الأحد لثلثٍ خلون من شوّال. وهرب إلى الشام جماعة من الأتراك خوفاً من إبن عمّار، فرُدّ وأمن بعض الطريق(2).

وكان أمين الدولة أبو محمد الحسن بن عمّار بن أبي الحسين أول ما لمع شهابه وسطع في حوادث سنة 351هـ. أثناء حصار المسلمين لقلعة طبرمين في جزيرة صقليّة، إذ كان يقود جيش المعزّ لدين الله الفاطمي وحاصر رمطة في الجزيرة، وظهر بشكل بارز على مسرح الأحداث في عهد الخليفة العزيز بالله فكان من أجل كُتّابه، وهو كبير كُتامة وشيخها وسيّدها، ويلّقب بأمين الدولة، وهو أول من لقّب في دولة المغاربة، ولما أفضت الخلافة إلى الحاكم بأمر الله ردّ إليه الأمور والتدبير سنة 386هـ. وقال له: أنت أميني على دولتي ولقبه وكنّاه، وكان النّاس على إختلاف طبقاتهم يترّجلون له. وهو الذي فتح الطريق لأبناء قبيلته لينتقلوا إلى الشام، حيث أَرسل القاضي أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكُتامي إلى دمشق، فقام أبو تميم هذا بوضع أخيه علي بن جعفر والياً على طرابلس 386هـ. وهو الجد الأعلى لبني عمّار الّذين استقلوا بحكم طرابلس الشام. (رواية الدكتور عمر عبد السلام تدمري عن مخطوطات متعددة ص 237).

ومن جديد نرمي بصنارة الصيد في بحرنا، الذي نرمز إليه بالغنى الوفير وهو صيد السمك (كناية عن مباركة هذه المخلوقات) المرّمز إليه هو الغنى بطاقات وثابة وعقول وقادة مُبْدِعَة وهي نواة أي أساس ينهض وينجح.

تأسيساً وتأصيلاً لهذا الموضوع ومنشأه التأسيس نقف مع رواية مخضرم من رواة الشيعة ممّن أعطوا وأبرزوا لنا أسماء سَطَعَت في سماء الفضيلة وأشّعت بركات أعمالهم نجاحاً أثمر وأغنى. وقليلٌ منهم حظي على مساحة من الإهتمام من قِبَلْ أرباب الأقلام وأصحاب التراجم والطبقات وتراجم العلماء سيّما في العصور المتوسطة والجديدة مقارنة مع أخوتهم من بقية العلماء الّذين إحتلوا المساحة الأوسع من التراجم، وهو ما كان سبباً للتكرار، وبالتالي سبّب مللاً لدى المتلقي والقارىء، وكان الأولى بالعلماء أصحاب تلكم المعاجم والكتب ممّن عنوا بمهمة الترجمة أن يلُّموا بأسماء كثيرة وعديدة لمعت وسطعت وانتجت، لكن الإهمال وعوامل عديدة أخرى كانت سبباً لذلك التكرار والروتين، وتشبّعه بعوامل الجهل والتسليم للميّسر ومجافاة المعسر وعدم تجشم عناء البحث. وإني أسجل هنا، أهمية ما أجادت به تلكم الأقلام من محاولة مبكرة في تصفّح وترقيم ما وصلت إليه أيديهم.

آل الأحواضي في كسروان

ومن غفلوه جهلاً وأسبابه عديدة وكثيرة من مسببات عدم توسعهم بالإلمام بأحوالهم. من هُنا واستدارةً مني، كانت هذه المحاولات المتتابعة، بدأتها مع علماء آل الأحواضي الكرام سكان بلدة حراجل وعلماء تلكم النواحي وكان من أسباب توفيقي إلى الإلمام بهم هو قلم المؤرخ الكبير عز الدين محمد بن علي بن إبراهيم بن شدّاد المتوفى سنة 684هـ ـ 1285م. في كتابه الوفير الأهمية «تاريخ الملك الظاهر» بإعتناء أحمد حطيط، منشورات «المعهد الألماني للأبحاث الشرقيّة» توزيع «مؤسسة الريان» بيروت 1430هـ ـ 2009م. والذي ألمّ بأحوالهم وهو المعاصر لهم والمدارك لما ينقله عنهم، قال في صفحة 139 تحت عنوان ذكر من توفي في هذه السنة من الأعيان وهي سنة أربع وسبعين وستمائة أحمد بن الشيخ الإمام الفقيه العالم جمال الدين عبدالله بن عبد الملك بن أبي أسامة الحلبي، الشيخ الإمام العالم الفاضل مفيد الدين. توفي في مستهل جمادى الأولى بقرية حراجل من جبل لبنان، من أعمال بعلبك، ومولده في العاشر من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وستمائة، كان علاّمة في علم الأصول وعلم المنطق والعلوم الحكمية وتصدّر وصنّف.

كان إشتغاله في علم الأصول على والده وفي علم المنطق على الشيخ شمس الدين خسروشاهي العجمي والشيخ فخر الدين بن البديع البندهي، إشتغل في ذلك في شهور سنة خمس وخمسين وعمره إذ ذاك ثمانية عشر عاماً q (تاريخ الملك الظاهر ص 139 ـ 140).

وأظنه أنه المترجم عند الصفدي في \"الوافي بالوفيات\" برقم 752،ج 2، ص 309. قال: مفيد الدين الأحواضي الشيعي محمد بن الجمال بن أبي صالح عبدالله بن أبي أسامة مفيد الدين الأحواضي رأس الشيعة الغلاة وقدوتهم، مات بقرية حراجل من جبل الجرد وقد قارب الأربعين سنة أربع وسبعين وست ماية، وكان كثير الفنون لكنه أحكم المنطق والفلسفة. ولم أسبق إلى ترجمته من عند ابن شدّاد في كتابه المار ذكره، بينما وجدت من اشار إلى ترجمة الصفدي من دون معرفة مني وغير قراءة عنده، بل بمباحثتي ومتابعتي وتصفحي لمكنون كتاب «الوافي بالوفيات» لآل الأحواضي عند الشيخ جعفر المهاجر في كتابه «جبل عامل بين الشهيدين الحركة الفكرية في جبل عامل في قرنين من أواسط القرن الثامن للهجرة» الرابع عشر للميلاد حتى أواسط القرن العاشر/ السادس عشر، طبع المعهد الفرنسي للشرق الأدنى. قسم الدراسات العربيّة، دمشق 2005م. ص 178، قال: آل الأحواضي الفقهاء الشيعة في قرية حراجل، من قرى كسروان، التي يترجم الصفدي لأحد كبارهم «مفيد الدين الأحواضي الشيعي، محمد بن جمال الدين بن أبي صالح، عبدالله بن أبي أسامة». واصفاً إياه بـ «رأس الشيعة وقدوتهم ألخ.. ما عند الصفدي المشار إليها. وما رواه اليونيني أيضاً في عادته مع أهل زمانه ممّن ترجم لهم وأفاض في الذيل على مرآة الزمان لوالد المترجم وهو محمد بن عبدالله بن أبي أسامة مفيد الدين بن الشيخ جمال الدين أبي صالح المعروف بإبن الأحواضي [ الجزء الثالث من الذيل هو المجلد السابع عشر صفحة 240] قال: كان مُفنناً ذا علوم كثيرة، والغالب عليه المنطق والحكمة والفلسفة والميل إلى مذهبهم، توفي بقرية حراجل من جبل الجرديين ليلة الجمعة رابع جمادى الأولى ولم يبلغ أربعين سنة. ووالده شيخ الشيعة والمقتدى به عندهم والمشار إليه في مذهبهم، وسيأتي ذكره إن شاء الله..

من علماء الشيعة في بعلبك

ومن علماء الشيعة في بعلبك: مبارك بن حامد بن ابي الفرج المنعوت بالتقي الحداد. كان من كبار الشيعة المتغالين في مذهبه عارفاً به، وله صيتٌ في الحلّة والكوفة ، وتلك الأماكن، وعنده دين وأمانة وصدق لهجة وَحُسن معاملة. وكانت وفاته ببعلبك يوم الأحد ثامن عشر ذي القعدة، في الستمائة هجري، ورثاه جمال الدين محمد بن يحيى الغسَّاني الحمصي بقصيدة من أربعة وعشرين بيتاً نقتطف منها ما يلي:

لو أن البكا يُجدي على أثر هالكٍ

بكينا على الزّهر التقي المباركِ

بكينا على مَنْ كان في الحلّة بيته

مناخ ذوي الحاجات مأوى الصعالك

بكينا على مّنْ فيه للبذل للقِرى

فريداً وحيداً ما له من مشاركِ

جواداً إذا ما الغيثُ ضَنَّ فلم يجدْ

روى جوده بالوابل المتداركِ

يؤمُّ كلّ الكرام ويهتدى

بحيث اهتدت أمّ النجوم الشوابكِ

تقيٌّ نقيٌّ لا بخيل ديانة

بفرض ونفل من جميع المناسك

يرى ودَّ آل المصطفى خير متجر

وإن صُدَّ عنه بالظبا والنيازك

ونقف مع عَلَمٍ من الأعلام الذين كان لهم أثر ما في نواحينا وعُرِفَ عنه أَنّه من أهل التقدم والبروز ممّا أثرَّ على محيطه وتأثر بما حوله وترك طابعاً معيناً أبرزته صفحات التاريخ

وفَرَضَ عليهم أن يؤرخوا له، وهو السيّد الحسن بن السيد الشريف النقيب نظام الدين أبي الحسن علي السيد الشريف فخر الدين بن الحسن بن ماهد بن طاهر بن عبيدالله بن علي بن محمد بن علي بن إسماعيل الأعرج بن الإمام جعفر بن محمد الصادق o، هكذا ورد سياق نسبه في كتاب « تاريخ الملك الظاهر» لإبن شدّاد صفحة 140 طبعة المعهد الألماني تحقيق واعتناء أحمد حطيط وغير خفي أن إسم ماهد الوارد في سياق نسبه من ضبط ورسم المؤرخ قطب الدين موسى بن ابي الفتح محمد اليونيني صاحب الذيل، ج3، مجلد السابع عشر، تحقيق الدكتور عباس هاني الجرّاح، طبعته دار الكتب العلميّة، وهو قريب من عصر الرجل صاحبنا ومن أهل مدينته، وبالتالي أعطي (3) أفضليته على من قال فيه إسمه ماهك في رواية جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي الأتابكي 813 ـ 874هـ. طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب، وزارة الثقافة والإرشاد القومي المؤسسة المصرية العامة لكتابة النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، ج7، ص 248...

ورواية اليونيني حول نسب صاحبنا مقدمة من إعتبار ثان وهو أنّه جعل في نسبه لقب أبي الجن وهو السيّد علي بن محمد بن علي بن إسماعيل الخ، ونقل لنا المحقق لكتاب إبن شدّاد ملاحظة وهي أن إبن شدّاد ساق نسب الرجل مُستدركاً على الهامش الأيسر بالقلم نفسه. الذي نسخ فيه كتاب «تاريخ الملك الظاهر».

ومن مضمون ترجمته عند ابن شدّاد وهو الأقدم بين المؤرخين التاليين، اليونيني وابن تغري بردي ممّن نقلا ترجمة صاحبنا يقول إبن شدّاد عز الدين محمد بن علي بن إبراهيم بن شدّاد المتوفى سنة 684هـ / 1285م. عنه: توفي في شهر صفر ببعلبك ونقل إلى دمشق ودفن في الصالحية، وكان قد نيف على السبعين سنة.(من وفيات سنة أربع وسبعين وستمائة) ، (لم يضع إبن شدّاد تاريخاً لولادته، ونقف عليه في المصدرين التاليين) وكان مناضلاً عالماً يعرف العربيّة وله النثر الرايق والنظم الفايق، قرأ النحو على جماعة وكان والده متولياً لنقابة الأشراف إلى أن عزل عنها في سنة ثمان وستين بسبب وقوف الأشراف فيه، ومن شعره في الملك الظاهر ركن الدنيا والدين بيبرس صاحب الديار المصرية:

بستان روحِ العدلِ في آمانه

وفنون طِيْب جناه في أفنائهِ

يأوي جميعهمُ إلى ركن له الـ

ـبَاع الشديد بسيفه وسنانهِ

ركن الدُّنى والدين سلطانُ الورى

من بارك الرحمنُ في سلطانهِ

ولقد غدا المعتزُّ طايع مُلكه

واشتدَّ منتصراً بحبِّ عنانهِ

بشرى لدين مُحمّد بعصابةٍ

لولاهمُ إنهدّت قوى أركانهِ

وتراه في ليل الخطوب إذا دجى

متيقظاً لله عن وسنانهِ

ترك الضَّلالة من دعاهُ إلى الهدى

ما عاينتْ عيناه من برهانه.

ورواه اليونيني في ذيله على مرآة الزمان قال: الحسين بن علي بن الحسن بن ماهد بن طاهر بن أبي الجن أبو عبدالله مؤيد الدين الحسينيّ.. كان من أعيان الأشراف ووالده نظام الدين تولى نقابة الأشراف مدة ونظر ببعلبك وأعمالها مدة أخرى، وكان واسع النعمة كثير الأملاك، وافر الحرمة، نزيهاً، عفيفاً في ولاياته، غير أنّه كان قليل النفع، وكان له مكانة عند الملك الصالح عماد الدين إسماعيل وعند وزيره أمين الدولة، وأمّا ولده مؤيد الدين صاحب هذه الترجمة فكان شاباً حسناً دمث الأخلاق، كثير الإحتمال والخدمة لمن يصحبه بنفسه، مَعَ عظم بينه وعدم إحتياجه، بل تحمله المروءة على ذلك، وكان بيني وبينه صحبة أكيدة ومودة، جمع الله بيننا في جنته، وكان عنده تشيع يسير، ولكن لم اسمع منه كلمة تؤخذ عليه، وكان يعظم الصحابة(رض)، ويترضى عنهم ويذم من يسلك غير ذلك ويبرأ منه.. وكانت وفاته يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر بقلعة بعلبك، لأنّه تمرّض في مدينة بعلبك، وحصل أراجيف وجَفل أوجب إنتقال معظم أهل البلاد إلى القلعة، فإنتقل المذكور وهو متمّرض في جملتهم، فأدركته منيته بها ودفن في مقابر باب سطحا ظاهر باب دمشق من مدينة بعلبك، ولم يبلغ أربعين سنة من العمرq. انتهى. ونقف على سيرته في النجوم الزاهرة على النحو والسياق التالي: وفيها وهي سنة أربع وسبعون وستمائة، توفي الحسن بن علي بن الحسين بن ماهك بن طاهر أبو محمد فخر الدين الحسينيّ نقيب الأشراف وابن نقيبهم، مولده سنة ثمان وستمائة، وهنا هو المؤرخ الوحيد ـ إبن تغري بردي ـ من وضع تاريخاً لمولد صاحبنا على رغم وضع الأولين إبن شدّاد واليونيني إشارات عن عمره تومئ إلى تقريب سنة مولده، ويضيف بالقول: [ومات يوم الأحد تاسع شهر ربيع الأوّل ببعلبك، وكان عنده فضيلة ومعرفة بأنساب العلويين، تنسب إلى إبن تغري بردي في النجوم الزاهرة] ونظم نظماً متوسطاً وكان مبذّراً للأموال. إنتهى. ومن المفارقات في كل من ترجمه لم نر منهم من ذكر ولو إشارة إلى من تتلمذ عليهم، وهي ملاحظة جديرة بالإنتباه.

ونقف عند اليونيني في ج3، مجلد 17، ص 387 مبتدأها وهي طويلة على ترجمة عبدالله بن عمر بن نصرالله أبو محمد موفق الدين الأنصاري، صاحبنا وروى كثيراً من شعره وتوفي ليلة الجمعة مستهل صفر السنة السابعة والسبعون وستمائة من غير مرض، بل عَرَضَ له قولنج ليلة وفاته، فمات من وقته، وقد نيف على خمسين سنة من العمر، وكان مدة مقامه ببعلبك لا ينفك ينقطع عن المؤرخ اليونيني بنّصه وتعبيره عنه.

أبو الحسين القاضي الطرابلسي

من جملة الأعلام الكرام والوجوه الأثبات الّذين يترجم لهم الذهبي في تاريخ الإسلام وفي وفيات المشاهير والأعلام هو أبو الحسين علي بن عبد الواحد بن حيدرة القاضي بطرابلس الشام، مدّحَهُ الشاعر عبد المحسن الصوري بقصيدة مطلعها.

طالت لحاجةُ آيسً فتقاضي

فتعرشت للصدِّ والإعراضِ

لو كان يَسخَطُ من يُرد بغُصّةٍ

من حاجةٍ ما عادَ عودة راضٍ

أبو محمد الطرابلسي النحوي

من الأعلام الأجلاء نجد شخصية من أركان علمي النحو والصرف وقد ترجمناه مُفصّلاً عن السيوطي في بغيته (4) وعن الذهبي منوهين عليه وممّن ترجمه هو سيّدنا الحسن الصدر وهو توفيق بن محمد بن الحسين بن محمد بن عبدالله بن رزيق أبو محمد الطرابلسي النحوي، ترجمه السيد الصدر في تكملة أمل الآمل(5) قال: ولد بطرابلس وسكن دمشق الشام. كان من الشيعة الإماميّة. وذكره السيوطي في الطبقات قال: كان أديباً فاضلاً شاعراً يُتّهم بقلّة التدين والميل إلى مذهب الأوائل [ بغية الدعاة للسيوطي ـ النص]. قلت (6): هو بريء من كل ذلك، غير أنه عالم بعلم الأوائل. مات سنة ست عشرة وخمسمائة.

ورواه الذهبي في «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام».

مع آل عود الكسروانيين

نتابع معاً محاولة سبر غور ما جادت قرائح شوامخ بيت العود، أهل الفضائل والجود، ونقف معاً على إسم مُبدع من وجوههم الكريمة والجليلة عنيت به الشيخ شرف الدين حسين بن نصير الدين موسى بن العود، العاملي قال: في الرياض (7): فاضل عالم فقيه، من تلامذة الشيخ محمد بن موسى إبن الحسن بن العود ويروي عنه بالإجازة التي كتبها له سادس عشر رجب سنة 761هـ. (إحدى وستين وسبعمائة). قال: لا يبعد أن يكون هذا الشيخ من أجداد إبن العودي المعروف، أعني تلميذ الشهيد الثاني. ثم الظاهر منه أن المجيز والمجاز له إبنا عم، وأن والد المجاز له ايضاً من العلماء فيكون هؤلاء من علماء جبل عامل، إنتهى. فلاحظ (8).

العود إلى طرابلس

القاضي الإمامي عز الدين عبد العزيز بن أبي كامل الطرابلسي تعود إليه أغلب أسانيد رواية مؤلفات أبي الصلاح التقي بن نجم بن عبيدالله الحلبي فقيه ومتكلم الإماميّة (374 ـ 447ه) فهو تلميذه النجيب رضوان الله

عليهما وهناك ترجيح وفاته بين سنتي 520 ـ 530هـ [ ... ص 726] وروايته هذه عن أبي الصلاح جاءت من غير واسطة. فيبدو أنه عمّر طويلاً. بإعتبار ما تحدّث عنه إبن ميّسر عن كون القاضي الإمامي إبن أبي كامل حياً في سنة 525هـ. وسريعاً ننعطف بشراع سفينتنا نحو مرفأ ثان من مرافىء الشيعة الإمامية ولعله إبن أخي شيخنا عبد العزيز آنف الذكر هو أبو عبدالله الحسين بن عبدالله. إبن ابي كامل الطرابلسي فقد مدحه الشاعر عبد المحسن الصوري العاملي بقصيدة مطلعها:

لمن العيسُ أصبَحتْ مستقلة

بشموسٍ وبمثلها مستظلة

فأحسَّ الفؤادَ طارَ وما كا

نَ يطير الفؤاد إلا لِعِلَّه

وممّن نال منه الشاعر عبد المحسن الصوري هو أبو الحسن بن علي المعروف بإبن المظالمي بطرابلس.

ومن أماثل الأعلام من الشيعة الإماميّة نقرأ إسم الحسين بن بشر بن علي بن بشر الطرابلسي المعروف بالقاضي كان صاحب دار العلم بطرابلس قاله إبن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة نقلاً عن إبن طي في كتابه رجال الشيعة. وأضاف أن له خُطباً يضاهي بها خُطب إبن نباتة وله مناظرة مع الخطيب البغدادي ذكرها الكراجكي في رحلته، وقال: حكم له على الخطيب بالتقدم في العلم.

ومن علماء الشيعة الإماميّة، الحسين بن تميم بن سعيد بن غالب القنسريني المعروف بإبن السروجي. قال إبن حجر ذكره ابن أبي طي في «رجال الشيعة» وقال رحل إلى العراق، وقرأ على «أبي علي بن أبي جعفر الطوسي» كتاب «تهذيب الأحكام». لأبيه أبي جعفر الطوسي أعلى الله مقاميهما، ومات بنابلس سنة ثمان عشرة وخمسمائة.

الحسن بن إبراهيم بن محمد بن جعفر الحمصي، المتوفى سنة 540هـ. 1146م. قال إبن حجر. «ذكره إبن أبي طيء» وقال:« أخذ عنه أبي وقال: كان فقيهاً إمامياً مناظراً. مات سنة اربعين وخمسمائة. وقد عمَّر طويلاً.

ونمرُّ على إسم مُهمٌّ ذي مغزى ونعيد ذكره وهو الحسين بن أحمد بن غالب الجبلي ابو علي المؤدب المتوفى سنة (ت 473هـ / 80 ـ 1081م). قال إبن حجر:« ذكره إبن ابي طي، وكان أحد الفقهاء الإماميّة، قرأ على إبن البّراج، وولىَّ القضاء، ثم عَزل نفسه لمنام رآه وقال: عاهدت الله بعده أن لا أحكم بين إثنين، وجلس يُقرئ النّاس القرآن».

الحسين بن احمد بن محمد القطاّن البغدادي. قال إبن حجر «ذكره ابن أبي طي ». «إسمه يحيى ووالده كان أيضاً عالماً شيعياً ميرزاً وكتابه هذا مفقود»ـ في رجال الشيعة وقال:« إمام عالم فاضل، من فقهاء الإماميّة قرأ على الشريف المرتضى علم الهدى الموسوي، وعلى الشيخ المفيد، وقدم حلب سنة تسعين وثلاثمائة. فأقرأ في جامعها، ثم توجه إلى طرابلس، فأقام عند رئيسها أبي طالب محمد بن أحمد واقرأ أولاده، وصنف «الشامل» في الفقه أربعة مجلدات وكان موجوداً سنة عشرة وأربعمائة ولا يمكن إلاّ أن نمرّ على قبس من شعاع حياة شيخنا أبو الصلاح الحلبي، التقي بن نجم بن عبيدالله (374 ـ 447ه) (984، 1055م)، فقيه ومتكلم إمامي شامي. ولد في حلب ويبدو أنّه تعلّم هناك. واستناداً إلى ابن أبي طي فإنّه سافر ثلاث مرات إلى العراق وأفاد من مشايخ تلك البلاد. لكن لما لم يكن قد أدرك مجلس الشيخ المفيد، فالمظنون أن أسفاره تلك تمت بعد وفاة الشيخ المفيد (413ه) على رواية الذهبي 11/ 404). واستناداً إلى ما ذكره الطوسي (رجال، 457) فإن أبا الصلاح حضر ببغداد مجلس درس الشريف المرتضى ( ت 436ه) ودرس عليه، وأفاد من الطوسي نفسه أيضاً رغم أنَه لا ينبغي أن تكون الفائدة كبيرة. كما أن أبا الصلاح نفسه روى في تقريب المعارف (ص122) الحديث عن شخص إسمه أبو الحسن محمد بن محمد (ربما يكون البصروي، ت 443ه ـ 1051م) بروايته عن الشيخ المفيد. وأن إعتبار الطريحي (3 / 336) السلاّر الديلمي (ت 463ه) أحد مشايخ أبي الصلاح، يحتمل أن يكون ناشئاً عن استنتاج خاطئ من كلام الشهيد الأول بشأن تلامذة الشريف المرتضى (الشهيد الأول، مذكرة»).

واستناداً إلى كلام إبن ابي طي فقد كان ابو الصلاح «عين علماء الشام» (الذهبي، ن. ص). وروي أن أهل حلب لما استفتوا الشريف المرتضى، أحالهم على «الشيخ التقي» (أبو الصلاح) ـ (الشهيد الأول، ن. ص). واعتبره الطوسي معاصره العراقي ـ عالماً ثقة (رجال، ن. ص) وعدّه منتجب الدين الرازي فقيهاً عيناً وثقة (ص 30). ومن متأخري الإماميّة دعاه الشهيد الأوّل:« خليفة المرتضى في العلم» مما ورد في ما بعد على لسان الشهيد الثاني بشكل «خليفة المرتضى» في بلاد حلب. ممّا يحمل على الإعتقاد أن الشريف المرتضى كان قد عيّن أبا الصلاح نائباً عنه في حلب (ظ: الشهيد الأول «إجازة»، 198، الشهيد الثاني، 158 ـ 159)، كان لأبي الصلاح إضافة إلى علمه بالفقه والكلام، علم بالطب أيضاً وترك آثاراً في هذا المجال (ظ: قسم آثاره في هذه المقالة). شهد خلال شبابه مرحلة طويلة من الإضطراب السياسي والإجتماعي التي تزامنت نسبياً مع إمتداد نفوذ الخلافة الفاطميّة في حلب، حيث بدأت مع إحتلال صالح بن مرداس في 414ه سدّة الحكم بحلب مرحلة جديدة في تاريخ هذه المدينة. فقد كان المرداسيون منشغلين بشكل متواصل بالصراع مع الفاطميين في الجنوب، وفي الشمال بالإعتداءات التي تقوم بها الدولة البيزنطية بين الحين والآخر. ويلاحظ إنعكاس وتأثر كتابات أبي الصلاح من جراء هذه الإضطرابات، وليس معلوماً كيفية تعامله بوصفه عالماً إمامياً مع الأفكار والتعاليم الإسماعيليّة التي لقيت رواجاً في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري الموافق للعاشر الميلادي في بيئة الشام الإمتداد نفوذ الفاطمية الإسماعيلية بمصر (ظ: المقدسي، 180) وإلى اي حد كان عدائياً، أم مسالماً، إلا أن حرب حكام حلب في مواجهة البيزنطيين من وجهة نظر الإماميّة بحلب لم يكن ينظر إليها بوصفها حرباً بين حكومتين جائرتين، بل كما هو واضح في آثار أبي الصلاح فإن الحرب ضد الكفار الذين يهددون كيان الإسلام، حتى لو كانت في ركاب حكم جائر، هي في حقيقتها نصر الإسلام ودفاع عن دار الإيمان وتُعدُّ واجباً (ظ: أبو الصلاح، الكافي، 246 ـ 247). كان لأبي الصلاح في حلب حلقة دراسيّة يمكن أن نذكر من أهم خريجيها أبا الحسن بن ثابت الحلبي الذي حلَّ محل أستاذه بعد وفاته وأمّا الآخر الذي نصادفه من بين تلامذته فهو القاضي عز الدين عبد العزيز بن ابي كامل الطرابلسي ومنهم أيضاً العالم أبو الفتح الكراجكي.

 

الهوامش:

(1) أنظر كتاب « صبح الأعشى في صناعة الإنشا» تأليف أحمد بن عليّ القلقشندي المتوفى 821هـ ـ 1418م. شرح وتعليق محمد حسين شمس الدين، المجلد الخامس. ص 118 ـ 119، ط. دار الكتب العلميّة وكتاب «تاريخ الأنطاكي المعروف بـ صلة تاريخ أوتيخا» للمؤرخ يحيى بن سعيد بن يحيى الأنطاكي المتوفى سنة 458هـ/ 1067م. تحقيق عمر عبد السلام تدمري ط. دار جروس برس طرابلس ـ لبنان سنة 1990م. ص 165 وما تلاها..

(2) أنظر كتاب «تاريخ الأنطاكي المعروف بصلة تاريخ أوتيخا» تأليف المؤرخ يحيى بن سعيد بن يحيى بن الأنطاكي، مصدر سابق ص 237 ـ 238.

(3) كونه من أهل مدينته وأخصّهم بها.

(4) كتاب «بغية الوعاة لجلال الدين السيوطي» ج1، ص 479.

(5) كتاب « تكملة أمل الآمل» ج2، ص 238 برقم 247 تحقيق د. حسين علي محفوظ.

(6) أي ما قاله السيد حسن الصدر(قده) تعليقاً وتعقيباً على كلام السيوطي.

(7) كتاب «رياض العلماء وحياض الفضلاء» للشيخ عبدالله أفندي الإصبهاني يقع في مجلدات، طبع مكتبة السيد المرعشي النجفي.

(8) كان التعليق من كلام السيد حسن الصدر في «تكملة أمل الآمل« » ج1، ص 149/150 برقم 161 على كلام الشيخ افندي في الرياض السابق ذكره. وهي إشارة أولى إلى نزول وخروج هذا الفرع الباسق من جبل كسروان ونزوله نحو جبل عامل؟