الأبدال من جبل لبنان

25/6/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

الحلقة الثانية بقلم الأستاذ السيّد محمد يوسف الموسويّ

ليس من يدوّن كمن لا يدوّن، ومن يدوّن كمن لا يحفظ، فالكتابة هي وسيلة للحفظ، ومثله جاء في الأثر الشريف آفة العلم النسيان. وجعلت حالة النسيان نقيض وندّ الحفظ، ولولا وجود الكمّ الواسع المترامي الأطراف من المخطوطات المبثة عن مجمل النشاط العلمي لأمةٍ ـ لشعبٍ ـ لوطن. وبواسطة التنقيب ينقلب حال الإندثار إلى إنتشار. من هنا تكون وتأتي حالة التدوين، ولولا التدوين لما وجد الإنتشار. ولكانت ورثة أمةٍ وشعب وأهل وطن واحد على تنوّعه وتعدده آل أمرُها إلى جمود واضمحلال. وهو أمرٌ يحفز فيّ نشاطاً، وجاءت مني محاولات لإلتقاط المواد ذات العلاقة والإرتباط بتاريخ أو علوم أو ما يرتبط ضرورة بمضمون كتابتنا عن تراثٍ مجيد ممتلىء ومفعم بالنجاح والعطاء وجاءت مني هذه السطور محمّلةً وممتلئة بالمعلومات القصد من ورائها هو إحياء الذاكرة، خشيةً الإضمحلال والتلاشي.

وعودٌ على بدء... والعود أحمد... نتابع ونُوالي كتابة سطورٍ عطرةٍ لأخبار رجالات وأعلامٍ إختاروا الإنفراد بأنفسهم عن مخالطة النّاس، كي لا يتلّوث ذهنهم بما تلوث به بعض النّاس، وساءَهم هذا التلوث فقرروا الإنزواء في أماكن متراميّة الأطراف. وكان لجبل لبنان نصيبه الأوسع، لأجل ما ابتدع فيه الخالق الكريم جلّ جلاله من جميل الهواء وبديع الطبيعة الخلابة من صخور وجبال وأشجار وطيور ووحوش وثلوج وأنهار ومياه وينابيع وزهورٍ، إضافة إلى مجاورته للبحر الأبيض المتوسط (بحر الروم) ومن أفضل من هذه البقعة الجغرافيّة لإستيطانها من جهة طبقة إختارت طريق العبوديّة لله الكريم الجميل سبحانه وتعالى، يروي المؤرخ والنسّابة والأديب إبن عساكر في وصف جبل لبنان وهو يتكلم عن قداسة خاصة حاقت ولازمت جبل لبنان ومثله يذهب المؤرخ الطبري في أنّ آدم بنى البيت من خمسة جبال منها جبل لبنان [أنظر كتاب «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، ط. دار المعارف بمصر، 3/57 ـ 58 وكذا تاريخه المعروف بإسمه د. دار القاموس، بيروت، 1/62].

وكما كان جبل لبنان مهبطاً وملاذاً وملجأ لعددٍ من الزهّاد فقد أفرد لذكرهم عدد من الكتّاب والبلدانيين والجغرافيين المسلمين واستوعبوا أسماء كثير منهم، مشاهدةً عياناً وبياناً أو سماعاً، فضبطوا لنا أرقاماً ملأت صفحاتٍ من كتبهم، ولولا تلكم التدوينات لحال واستحال علينا متابعة أخبارهم.

وعينوا أسماء بلدانهم التي أتوا منها وأغلبهم جاءَ في العصرين الأموي والعباسي. خشية من السلطان، وبعد وقوع النزاع بين ما يمثله أهل البيت i، وما تزاحم عليه وتراكم في خيال البعض وجعلوا من الإسلام وسيلة للوصول إلى هرم السلطة... من ذلك ما رواه الذهبيّ يقول: وشاءت الأمور والأقدار أنّه في زمن تسلّط معاوية خرج وثار عبد الرحمن بن عديس أبي محمد البلوي وسيَّر إليه معاوية جُنْداً لمقاتلته وظفروا به وسجنوه في فلسطين فهرب إلى جبل لبنان وفيه أدركوه، وقبل مقتله قال لقاتله:

إتقِ الله فإني من أصحاب الشجرة، فقال:

الشجر بالجبل كثير وقتله. [ أنظر «الذهبي في تاريخ الإسلام»، عهد الخلفاء الراشدين، ص 531].

ونقف عند ابن عساكر نصٌّ آخر في تفاصيل الحادثة فيقول:

أنّ الذي تتبّعه هو مجيب الآزدي، حاكم بعلبك، ومعه فُرس بعلبك وفرسان آخرون في سنة 35 أو 36 هجري / 655 أو 656 م. ولأجل ذلك ساق إبن عساكر حديثاً غريباً [بلفظه] يقول إبن عديس:

سمعت رسول الله w، يقول:

يخرج أناس يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلون في جبل لبنان أو الجليل أو بالجليل أو بجبل لبنان [إبن عساكر، «تاريخ دمشق»، 35/108 وكذا راجع«الإصابة في تمييز الصحابة» لأبي الفضل أحمد ـ 852هـ. ط. سنة 1328هـ ق.2/55 ق 3/374، وابن الأثير عز الدين ت630هـ. في «أسد الغابة في معرفة الصحابة»، مصر 1286، 4/ 316].

فمن خلال قراءة خبر هذه الواقعة في كتب التراجم والأخبار والتاريخ وسواها كثير، لما وصل إلينا أي شيءٍ عنها، فما بالك بمن لا يقرأ أو يُحدّث نفسه بتاريخ ما كان من خلال ما هو مدوّن من مخطوط وتراث أمةٍ ـ شعب ـ وطن. وفيها حِكَم وعبر وعابرةً للقارات والمذاهب والأديان.

وحول ما ورد في كلام إبن عديس مخاطباً قاتله حاكم بعلبك مجيب الأزدي أنّه من أهل الشجرة وجوابه بأنّ الشجر في الجبل كثير (1).

ما جاء في سورة الفتح الآية 18}لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً{، وهو ما يُطلق البعض عليهم لفظة بيعة الرضوان.

قصة البطحاء في بلدة سرعين الفوقا

جاء في كتاب « قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب t، للعلاّمة المحقق الشيخ محمد تقي التستري في الفصل الثالث والخمسين [« روى صاحب الفضائل مرفوعاً إلى عمّار أنّه جاؤوا إليه t، بجارية مع ألف فارس، وقال أبوها خطبها ملوك العرب ونكست رأسي لأنها عاتق حامل، فقال t، لداية الكوفة: أنظريها هل هي حامل؟ فلاحظتها فقالت: نعم، فقال t، لأبيها من يقدر على قُطعة ثلج في الساعة؟ فقال: إنّ الثلج في بلده الذي من أعمال دمشق كثير إلاّ أن بعد بلده مائتان وخمسون فرسخاً، فمدَّ t، يده، وكان على المنبر وردها وفيها قطعة ثلج. فأمرt، أن يضرب ستار وتترك داية الكوفة تحت الجارية طشتاً ويوضع قطعة الثلج مما يلي الفرج، فرمت المرأة علقة وزنها سبعمائة وخمسون درهماً ودانقان. وكان t، أخبرهم أولاً بوزنها. ثُمّ قال t، لأبيها: إنّ ابنتك دخلت الماء وهي بنت عشر سنين فدخلت هذه العلقة في جوفها وكبرت إلى الآن في بطنها، فنهض أبوها وهو يقول: أشهد أنّك تعلم ما في الأرحام وما في الضمائر وأنت باب الدين(2)»].

أقول: وجدت هذه الرواية أيضاً في كتاب الفضائل لإبن شاذان وهو صاحب كتاب «إزاحة العلّة» المذكور في كتاب «بحار الأنوار» وكان من مشايخ الإجازة روى عنه فخار بن سعد الموسويّ وروى هو عن أبيه وعن العماد الطبريّ صاحب كتاب «بشارة المصطفى» المطبوع في النّجف الأشرف. وقد عاصر ابن ادريس وتوفى في حدود سنة 660هـ. المطبوع في المطبعة الحيدريّة ومكتبتها في النّجف الأشرف 1962م. 1381هـ.

وتتبعت وتعقبتُ أثر هذه الرواية ورأيته يتوافق على قبر البطحاء (رضي الله عنها) الموجود في بلدة سرعين الفوقا أي على تلة القنطرة الواقعة بين قريتي سرعين الفوقا وسرعين التحتا وهي بلدة «اسعار» القديمة الواردة في كتاب «الفضائل» الآنف الذكر. في سلسلة جبال لبنان الشرقيّة. وقبرها يقع غربي بلدة النّبي شيث t، وفي الذاكرة الشعبيّة في قرية سرعين الفوقا والقرى المجاورة أنّ المرحوم الحاج ملحم شومان وهو من أهالي قرية سرعين الفوقا حضرت عليه «البطحاء» في عالم الرؤيّة وأخبرته بحالها وأنّها صاحبة الكرامة التي أكرمها الله تعالى بها وهي البراءة والتطهير من الزنا والرجس من خلال حكم أمير المؤمنين t، في قضيتها الآنفة الذكر. وأمرته بعمارة قبرها. وقد استجاب ذلك الرجل الصالح لطلبها مُتقرّباً إلى الله تعالى، بتعمير قبرها وببناء مسجد عليه وهو يقع قرب طريق دمشق القديمة التي تصل البقاع بدمشق. وتحيط بها الينابيع الغزيرة وتصلها بنهر جنتا ويحفوفا عبر سواقي ومجاري قديمة العهد.

 

الهوامش:

(1) وهي قصّة تبيّن لنا مدى انحراف الحاكم الأموي عن النهج النبويّ. فالرجل (إبن عديس) يتضح لدينا أنّه من الصحابة وله رواية محدث ومع ذلك بمجرد مخالفته لهوى معاوية خرج عليه لأنّه إنّما هي هوى النفس التي تنحرف بصاحبها عن جادة الحق والصواب. ولو شئنا أن نعدد مثالب الرجل لوقفنا على جبل من الأوراق.

(2) قضاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب t، للتستري، ص 242 ـ 243 بتصرف.