حضور ودور الحماديّة في لبنان منذ القرن السادس عشر

15/4/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الأستاذ داود حماده

أ ـ تمهيد

من عاصر الحاج حسين حماده ر)، وتعرّفَ إليه وتابعه في جميع مراحل حياته، واطّلعَ على كامل تفاصيل سيرته، تساءل: هل يمكن لجميعِ هذه القيم الخلقيّة والفكريّة أن تجتمعَ في شخص؟!.

أمّا وقد اجتمعت، فما هي الرّوافد التي التقت، فتداخلت ثمَّ تكاملت واتّحدت لتصُبَّ في مجرى حياته، وساهمت في بناء هذه الشّخصيّة الفذّة!!

إنَّ هذه الرّوافد التي كانت ترفدُ هذه الشّخصيّة المتميّزة كانت تجري في خطّين متلازمين: منها ما هو مكتسب بعرق الجبين وجهاد السّنين، بفعل الظّروف المتاحة والفرص السّانحة التي هيّأت له أن يكون تلميذ الأزهر الشّريف، وذلك في حدود سنة 1940م، ابتداءً من بيروت في المراحل الإبتدائيّة والإعداديّة والثّانويّة، وانتهاءً في مصر في المرحلة الجامعيّة.

وللأزهر الشّريف في ذلك الزّمن وهجه وتميّزه وتفرّده على مدى مساحة الشّرق الأوسط، وكان في مدارسه ومعاهده وجامعته، يدرّس بالإضافة إلى العلوم الدّينيّة العلوم الأكاديميّة، في مناخٍ دينيٍّ مُفعمٍ بالتّقوى والإيمان، وكان حريصاً أن يُلزمَ تلامذته بمفرداتٍ سلوكيّة أخلاقيّة تُميّزهم عن غيرهم في باقي المدارس والجامعات 2).

ب ـ نظرة في الروافد الحماديّة

أمّا الخطّ الآخر من تلك الرّوافد، فهو الإستعداد الشخصيّ الذي تكوّن من العامل الوراثي، ونشأته في بيتٍ قامت دعائمه على الكفاحِ والجهادِ مقرونينِ بالتّقوى والإيمان، وتمتدُّ جذوره إلى أعماق التّاريخ؛ إذ يتحدّر من العائلة الحماديّة التي حكمت حُكماً فعليّاً مُستقلاً على مدى ثلاثة قرون، منذ ما قبل سنة 1500م. إلى ما بعد سنة 1800م.)، ما يُعرف في جبل لبنان الشّمالي والبقاع الشّمالي الممتدّين من كسروان الفتوح وصعوداً إلى المتنين، ثُمَّ امتداداً إلى ما بعد طرابلس، إلى عكار وبانياس، وصعوداً إلى بشرّي والهرمل والضّنيّة، وعلى الرغم من التّوتّر المستمرّ بسبب العلاقة العدائيّة التي كانت قائمة بين آل حماده والسّلطة المهيمنة على المناطق المحيطة بهم السّلطة المملوكيّة ما قبل سنة 1516م. ثُمّ السّلطة العثمانيّة بعد هذا التّاريخ حتّى سنة 1918م).

وقد احتفظت العائلة الحماديّة بحقّ الصّدارة بين العائلات الإقطاعيّة المعروفة في ذلك الزّمن قبل هذا التّاريخ وبعده، وهي خارج السّلطة أيضاً، حتّى أصبحت كلمة حماده مرادفة للشّيعة الإماميّة في جبل لبنان، وتؤكّد ذلك جميع المصنّفات التّاريخيّة القديمة المحليّة والأجنبيّة) التي تحدّثت عن جبل لبنان في تلك الفترة الزّمنية الممتدّة بين القرنين الرّابع عشر والثّامن عشر الميلاديّين، مثل رسالة الشّيخ ناصيف اليازجي، وكتاب المسلمون الشّيعة للمؤرّخ علي حيدر أحمد. ووثيقة محفوظة في البطريركيّة المارونيّة مؤرّخة سنة 1860م. يعرضها الدّكتور سعدون حماده في كتابه « تاريخ الشّيعة في لبنان في الجزء الثاني صفحة 16». ومضمون هذه الوثيقة يؤكّد أنَّ مشايخ الحماديّة هم أقدم من كافّة المشايخ الموجودين في لبنان وأعلاهم قدْراً، وقد سمح لهم هذا الموقع أن يمنحوا هذا اللّقب لغيرهم من العائلات أمثال آل طربيه وآل الدّحداح وآل الشّدياق وآل الهاشم.

لم يحدّد أحد من المؤرّخين تاريخ قدوم هذه العائلة إلى لبنان بدقّة؛ لكنّهم يُجمعون على أنَّ وصولها إلى لبنان، كان في النّصف الأوّل من القرن الخامس عشر.

ج ـ شيوخ آل حماده

ويُجمع معظم المؤرّخين أمثال البطريرك الدّويهي وعيسى اسكندر المعلوف واليازجي وسليمان الظّاهر على أنَّ عائلة حماده عائلة عربيّة عريقة، تعود بجذورها إلى قبيلة مذحِج اليمنيّة، نزحت من اليمن بعد خراب سدّ مأرِب إلى الكوفة في العراق، وأحد أجدادها هو هاني بن عروة، الذي استشهد مع الإمام الحسين ع)، في كربلاء، ثُمَّ نزحت عشيرته إلى بلاد العجم، مُستخفينَ مدّةً، ثُمَّ ظهروا وعلى رأسهم جدّهم الذي ثار على الشاه، وفشلت ثورته، ففرَّ بأهله وعشيرته إلى لبنان، ونزل معهم في جرود كسروان، في بلدتي الحصين وقمهز، ثُمَّ توزَّعوا على المناطق الجبليّة المجاورة، ولم يسكنوا في السّواحل، الذي قد يمنحهم هذا السّكن السّهولة في العيش، ويُكسبهم المال الوفير والنّفع الكثير، بل اختاروا المناطق الجبليّة الصّعبة ليتحصّنوا بها، لأنّهم كانوا في تركيبتهم ونمط حياتهم لا يحتملون أن يحكمهم أحد، بل ينشدون التّفرد والإستقلال، ويرفضون الظّلم والتّحكّم، وهذا يشهد عليه تاريخهم السّابق في العراق وبلاد فارس.

ثمّ ما لبثت هذه العشيرة أن اصبحت تحكم هذه المنطقة، ثُمّ امتدَّت سلطتها إلى مناطق كثيرة من لبنان كامل جبل لبنان الشّمالي والبقاع الشّمالي أيضّاً)، بعد تراجع سلطة آل عسّاف ثُمَّ آل سيفا. وكانت تُقدّر المساحة الجغرافيّة التي كانت تحت سلطة آل حماده بنصف مساحة لبنان.

بعد مقتل الشّيخ حسين بن سرحان حماده في إحدى المعارك مع الولاة العثمانيّين سنة 1692م. بين بلدتي قمهز ولاسا، ثُمَّ ثأر له ولده اسماعيل في معركة عين قبعل في الفتوح. حكم أولاده اسماعيل وإبراهيم وعيسى هذه المناطق الشّاسعة شراكة؛ فكانت حصّة اسماعيل بلاد جبيل وفتوح كسروان، وحصّة أخويه إبراهيم وعيسى بلاد البترون.

كما ورد في كتاب العينطوريني مختصر تاريخ لبنان، ص 59 وقد وهبا الرهبنة المارونيّة الأرض التي تسمى وادي حوب في بلدة تنورين، وقد بنوا عليها دير حوب الذي ما زال قائماً حتّى الآن، ويشغله الرهبان، ويمارسون فيه نشاطهم الدينيّ، وإدارة ممتلكاته الواسعة؛ وهكذا فعل أخوهما الشيخ اسماعيل في ميفوق، إذ منح الرهبنة الأرض التي بنوا عليها دير ميفوق، كما وهب آل الدحداح عقارات عديدة وواسعة.

كانوا يتوزعون في سكنهم على قرى منطقة كسروان وجبيل والبترون، ثُمَّ انتقل القسم الأكبر منهم إلى الإقامة في الهرمل، نتيجة الحملات المتكررة من قبل الولاة العثمانيين في صيدا وطرابلس والشام بالتعاون مع بعض الأمراء والمحليين من المعنيين ثُمَّ الشهابيين؛ وكانوا يتّبعون في هذه الحملات سياسة الأرض المحروقة، فيهدمون المنازل ويقطعون الأشجار، حتَّى يمنعوا الحماديين من العودة إلى هذه المناطق؛ كالمعارك التي حصلت في بزيزا وأميون والقلمون بين سنة 1763م، وفي العاقورة سنة 1772م. ولكنَّ الحماديين ما كانوا ليستكينوا أو يستسلموا، بل كانوا يحاولون دائماً العودة إلى مناطقهم من جديد، وقد تمكّنوا أكثر من مرّة ـ كان آخرها سنة 1840م ـ حيث أسندَ عمر باشا النمساوي حكم جبل لبنان إلى ثلاثة من المشايخ الحماديّة، واستمر هذا الحكم حتّى سقوط النظام الإقطاعيّ نهائيّاً واعتماد نظام القائمقاميتين.

إنَّ هذا النظام الجديد الذي فرضته قوى عالميّة، قد قلّص نفوذ آل حماده، وقد تبدّل في الشكل والأسلوب، ولكنَّه لم يتمكّن من إلغائه، وبقي آل حماده في بلاد جبيل والبترون وفي كفر حلدا وداعل ورشكيدا وغيرها من القرى، وكان لبعض رجالاتهم من أحفاد الشيخ إبراهيم حماده، الجدّ الأقرب للحاج حسين حماده ر)، الوارد اسمه في شجرة العائلة الحماديّة، والذي كان حاكماً بلاد البترون، كما ورد ذكره سابقاً، هو الشيخ علي ملحم حماده جدّ والدة المرحوم الحاج حسين حماده، الذي تبوّأ منصب مدير الناحية في النظام الجديد وكان مركزه في الهرمل، وكان يشرف على كامل المنطقة الممتدة من الهرمل حتى مدينة البترون ضمناً.

ميّزات حكم آل حمادة ومآثرهم

ـ تميّز حكم آل حماده الذي استمرَّ أكثر من ثلاثة قرون، بأنّه لم يكن منّةً من أحد لا من المماليك ولا من بعدهم العثمانيين ولا من أيّة قوة خارجيّةٍ أخرى)، لأنّهم لم يكونوا مرتبطين بأيّة علاقة خارجيّة، ولا ممتهنين ولا مرتهنين لأيّة حماية أجنبيّة؛ بل فرضوا انفسهم بكفاءتهم وقوّتهم الذاتيّة، بخلاف حكّام المناطق الأخرى الّذين كانوا يعيّنون من قبل الولاة العثمانيين، ولم يكونوا إلاّ مجرّد جُباة للضرائب.

وقد حاول المماليك ثُمّ العثمانيون، وبالتعاون مع الأمراء المحليّين استبدالهم أو عزلهم أو إلغاءهم عشرات المرّات، ولم يتمكّنوا فيضطرون للتسليم بالأمر الواقع ليستمر الحماديون في حكم مناطقهم.

2ـ كان الحماديون في ممارسة سلطتهم يتمتّعون بالسيادة والإستقلال.

3ـ يتّصف حكمهم بالمحبة والعدل والشجاعة والكرم، وكانت هذه العناوين تقليداً سياسياً تمسّكوا به في جميع مراحل تعاطيهم العمل السياسيّ، ويؤكّد ذلك المؤرّخ فرنسيس الحداد بالوثائق وبالوقائع في كتابه «تاريخ الفتوح»، إذ يذكر أنّ أوّل عائلة مارونيّة قدمت إلى الفتوح كانت عائلة المقدّم يوسف سمعان الحصورني 1525م، وكان حاكم المنطقة الشيخ محمّد أحمد حماده، فأمّن لهم الحماية وممارسة شعائرهم الدينيّة بحريّة، وكان الحماديّون يؤمّنون الحماية والمساعدة لجميع البطاركة الّذين كانوا في زمنهم وفي مناطقهم، ولا يزال أرشيف بكركي يحتفظ ببعض الوثائق التي أرسلها الحكّام الحمادّيون يؤمّنون بها الحماية والمساعدة لجميع البطاركة الّذين كانوا في زمنهم أرسلها الحكّام الحماديّون إلى البطاركة يبدون فيها تقديرهم لمقامهم، ويتعهدون بحمايتهم ومساعدتهم للقيام بمهامّهم الدينيّة والزمنيّة كما يرغب البطاركة أنفسهم.

ويذكر أنيس فريحة في كتابه القرية اللبنانيّة حضارة في طريق الزوال ص 11 أن آل حماده يتحلّون بقيم اجتماعيّة ترتكز على حبّ الشجاعة وتحدي الخطر والحفاظ على الشرف والكرم؛ وإنّ تطبيق الشريعة الإسلاميّة كان وقفاً على العشيرة الحماديّة.

كما يذكر ايضاً الكاتب أحمد محمود سويدان في كتابه كسروان وبلاد جبيل بين القرنين الرابع عشر والثامن عشر أنَّ الحماديّين عُرفوا بشجاعتهم وصلابتهم وعنفوانهم ومغامراتهم في القتال، كما اتّصفوا بإكرام الضيف والنّجدة وإغاثة الملهوف؛ وهم يثأرون لأنفسهم، ولا يعودون إلى السلطات لحلّ مشاكلهم، ويحكمون أنفسهم بأنفسهم.

4ـ إنّ تقاطع المصالح الدوليّة مع مصالح بعض القوى الداخليّة، واجتماع هذه القوى على محاربة آل حماده لاستبدالهم، فرض عليهم التراجع، وشتّت شملهم في مناطق لبنانيّة متباعدة جغرافيّاً بين جبيل والبترون والهرمل)؛ لكنّ العلاقات الأسريّة والعاطفيّة والإجتماعيّة استمرّت وما زالت حتى الآن على تواصلها وتماسكها بينهم.

 الهوامش:

1) المصدر «حسين حماده، اليراع الأخضر» جمع وتحقيق الدكتور محمد حسين حماده من ص 25 ولغاية ص 29، الطبعة الأولى سنة 2016م.

2) وفاة الأستاذ الحاج حسين حماده كانت في 14 تموز 2014م. وذكرى أربعينه كانت في مسقط رأسه، راشكيدا ـ البترون في الحسينيّة التي شيدها على حسابه الخاص في 24/8/ 2014م