هل عملية الخلق واحدة؟

15/4/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم مستشار التحرير الدكتور عصام علي العيتاوي (1)

الله خالق كل شيء، الكون بسمائه وأجرامه وأرضه... وما يعرج بينها، وما يدب فيها، وهذا التعدد والاختلاف في الإيجاد والجعل، يعود دون ريب إلى قدرة لامتناهية في الخلق الهادف، وهو ما يقع تحت أبصارنا في العادة، وبصيرتنا أحياناً، وكل منا يستنتج على قدر طاقة عقله بعضاً من حكمة الوجود، ويعزو الأمر إلى سبب معين، أو يرجعه لعدّة عوامل، وهكذا تختلف الأمور، وتمتزج الرؤى، وتتقاطع الأسباب، ما يوقع الكثير من النّاس بالحيرة في تبني الأفكار، جراء تشابهها من جهة، أو تباينها من جهة ثانية، وتكثر تساؤلاتهم، وتنهمر أسئلتهم على ذوي أصحاب الشأن، في الساحة الثقافيّة والفكريّة، علّهم يجدون ما يبرّد غليلهم في تلمس الأجوبة الكافيّة، التي تأتي بالأعم الأغلب غير موضحة المطلوب لعدم احاطتها بالموضوع المسؤول من كل جهاته، أو لتشعبها بالشروحات والآراء المتنوعة، ما يجعل المستفهم لا يركن إلى سند وثيق، فيمل في الطلب، ويخلد إلى قلة الراحة في الإحاطة بما أراد معرفته ما يجعله في النهاية قلقاً في دقة معارفه ومفاهيمه ومعلوماته.

وتتكرر هذه الحالة مع كل جيل معرفي إلاّ في اللمم من العلوم الدالة على موضوعاتها بشكل دقيق، ولكم يختلف الخلف أحياناً مع السلف، على مسائل متداولة في الواقع، المعيوشة في طرائق بحثها والوصول إلى نتائجها بتعدد المسائل المطروحة ما يبقي نتاجات أهل الفكر أحياناً على مر الزمن بحالة لا تحسد عليها في طمأنة الآخرين.

وحتى نكون والقارئ على مسافة واحدة، في بعض هذه الأفكار حتى لا يبقى الكلام في سياقه العام غير مقيد، أذكر حالة واحدة ندخل بواسطتها إلى صلب الموضوع، وهي عملية الخلق من قِبله تعالى ذكره، هل هي واحدة أم متعددة؟ وهل الروح التي نُفخت في غيره من المخلوقات الأخرى؟ وهل الحيوان روح أو نفس؟ أم فيه نفس فقط دون روح كما يزعم بعض من النّاس؟ وهل عمليات الخلق متعددة من كل نوع ممّا أوجده الباري، أم الكل على حد سواء في الوجود.

وسوف أحاول الإجابة على هذه الأسئلة بالقدر المتمكن منه، تاركاً لذوي العقول هذه القضيّة مفتوحة، لمن يهمه هذا الأمر، سواء أكان ناقداً أو كاتباً وموسعاً قدر قدرته التحليليّة، وإمكاناته التجريبيّة، وتطلعاته الفكريّة.

والسؤال الملحاح قول الله عزّ وجل للملائكة  ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ(2)، وكذلك الآية  فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين (3) أيضاً،  فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (4).

ففي الآية الأولى أعلمنا الله أنّه سوّاه ونفخ فيه في الماضي، وفي الآيتين التاليتين، فإذا سويته في المستقبل، والمهم هنا أن عملية النفخ خص بها آدم (الإنسان) دون سواه  وفي المناسبة إلتفاتة بأننا لن نخوض في مسألة النفخ من حيث الآلية والكيفيّة لأنّها تحتاج إلى مزيد من الصفات الطوال لشرحها، أو لشرح ما يمكن فهمه منها، بحسب القوى العقليّة المحددة عندنا». فالمهم أن أمر النفخ هذا، هو ما أوقع أصحاب الرأي القائل بأن الحيوان ليس فيه روح، بإعتبار أن الله سبحانه حدّد النفخ بالإنسان، وهذا إشكال بحاجة إلى معالجة في مناسبته، لذلك يقول زعماً أن للحيوان نفساً فقط، ولا يوجد فيه روح، بالإعتماد على هذه الآيات الدّالة على الإنسان من دون سائر الحيوانات كجنس، يندرج الإنسان تحته بأنّه ناطق. ويتناقل محبّو العلم والمعرفة هذه الآراء في ما بينهم، رغبة في راحة واستقرار نفوسهم على برِ يابس يغنيهم عن الغرق في بحر علمي واسع، ليركنوا إليه، ويستندوا عليه، في جوانب المعرفة المتعددة من حب الإطلاع على أسرار الحياة والإستزادة في طلب العلم من المناحي الأخرى للقضايا الشائك فهمها عند غالبية الخلق والتي تنقلب النفوس على الدوام محاولة سبر أغوار الحقائق بشكل أفضل، متخذين من قول رسول الإنسانيّة مُحمّد w،  ومن تساوى يوماه فهو مغبون، لذلك وجب علينا أن لا نكون اليوم كالأمس، بل أن نتميز يومياً بتجديد مفاهيمنا وأفكارنا كلما طلعت الشمس.

وفي المناسبة أدلو بما أرى، في هذا الحوار، معتبراً أني حلقة وصل لمن سبقني، وربما ذات الحلقة تكون معبراً لسواي بالمستقبل حتى لا تتوقف عملية تجديد المفاهيم، وهنا كل المصلحين والمجددين يحاولون قدر جهدهم مواكبة عصرهم. ولا بُدّ لي من لفت النظر إلى العقدة الأساس الواجب معالجتها وتبسيطها أمام الذهن، حتى يمكن العمل بها وهي: إشكالية خلق الموجودات الأخرى غير الإنسان، للوصول إلى ما يريح النفس البشريّة ويرسيها على شاطئ الأمان لتحقيق الإطمئنان إنطلاقاً من السؤال الآتي: هل نفخ الروح من الله في المخلوق هو الشكل الوحيد للخلق عنده تعالى؟ أم أنّ الخالق بمشيئته المطلقة يخلق ما يشاء وكما يريد؟ واليقين في الإجابة المسألة الثانية، وهو على كل شيء قدير. وكمثال على هذه العمليات الخلقيّة سوف أتطرق لبعض أنواع من الخلق، بقدر جهدي في هذا الموضوع، تاركاً كما تقدم الأمر لسواي في متابعة كيفيات خلق كثيرة، إنطلاقاً من قوله تعالى:  وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ  (5) مستنداً في ذلك إلى القرآن الكريم والسُنّة النّبويّة الشريفة، جاعلاً ما وصلت إليه من التعدد ضمن ست حالات أوردها بشكل تسلسلي، موقناً بالكثير منها غيرها، وهي كما يلي:

1ـ الخلق، 2. البرء، 3. الذرء، 4. الإبداع، 5. التقدير، 6. النشأة، والتي يمكن تعريفها بشكل موجز حتى أفي الموضوع بعض حقه.

أولاً: الخلق

وهو الوجود بالهيئات والأشكال المدركة بالصبر. بمعنى احداث بعد أن لم يكن. والآيات الدالة عليه كثيرة أذكر حصراً منها:

 خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (6)،  خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ  (7)،  وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى  (8)  خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ  (9)... والخلق مختص بالإنسان ابتداء.

ثانياً: البرء

وهو خلق متعلق بالحيوان (النَسَمَة) يقول الإمام عليّ (ع)، في قَسَمِهِ: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة. ومن جملة معاني النسمة: ذا الروح للدواب، وكل دابة فيها روح فهي نسمة، وسميت نسمة لاستراحة صاحبها إلى تنفسه، كما جاء في لسان العرب. ومن صفات الله الحسنى البارئ التي يأتي قبلها الخالق، إذاً فالخالق للإنسان هو ذاته البارئ للحيوان، لكن ليس من طريق النفخ بل من طريق البرء وهو إيجاد روح بواسطة الخلق مختصة بالحيوان.

ثالثاً: الذرء

وهي المتعة بالولادة عند الثقلين معاً أي مختصة بخلق الذريّة والنسل من ذكر أو أنثى (الولادة). قال تعالى:  وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ،  جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ،  ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

رابعاً: الإبداع أو الإختراع

وهو إختراع ليس على مثال مسبوق، لا يمكن الزيادة عليه أو النقصان منه، لظهور العيب فيه مباشرة.  بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ  ،  بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ  ، ويقول الإمام عليّ (ع)، ثُمّ أنشأ الله الملائكة من أنوار أبدعها، وأرواح اخترعها...(15).

خامساً: التقدير:

وهو موافقة الشيء، بالكم والقياس بالتمام والكمال، والقضاء والحكم على وجه مخصوص، معطياً كل شيء ما فيه مصلحته.

قال تعالى:  وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ  ،  الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، ويقول الإمام علي (ع): أنّ الله تعالى حين شاء تقدير الخليقة وذرء البريّة وإبداع المبدعات نصب الخلق في صورة كالهباء قبل دحو الأرض ورفع السماء (18)، والخليقة هي الطبيعة والبهائم فيها دون النّاس، لأنّهم يدخلون تحت إطار ذرء البريّة.

سادساً: النشأة

وهي إعادة الخلق من جديد، والإستطاعة تطال كل المخلوقات إن شاء الله. قال تعالى:  ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ  ،وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ.

من هذه المقدمات، وغيرها ممّا لا ندركه من تنوع عمليات الخلق التي لا يعلمها إلاّ الله، أو يشاء أن يضفيها عظمته، تعددت كيفيات الخلق ولو شاء جعلها غير محصورة عدداً وهي كذلك، بإعتبار الأمر والنهي يرجع إليه، وتعددت معها هذه الكيفيات بإختلاف إفاضة الروح على كل ذي حياة، فالكل له وجوده المخصوص، وطريقة إيجاده ومن ثُمّ بعثه من جديد، و أظن أخيراً أن يبقى النقاش في ما بيننا أمراً ذا جدوى لو حصرناه بوجود الروح والنفس؟! أو النفس مستقلة؟ أو غير ذلك من الطروحات؟ مع العلم أنّه من المستحيل أن توجد نفس حية دون روح بإعتبار الروح تبعث الحياة في النفس والجسد، والنفس هي التي تقوم بعملية التنفس، وبقاء الجسد ببقاء النفس فيه، وبقاء النفس بملازمة الروح، فإذا ذهبت ذهب الكل. بالإضافة إلى ما تقدم لقد أنبأنا العلي القدير حتى أن التنفس يخضع له غير العاقل بقوله تعالى  والصبح إذا تنفس فإذا كان لنفس الصباح شؤون مع الروح والجسد، فإنّ للروح قضايا من الشجون والشؤون مع سائر المخلوقات الأخرى. وحتماً نستنتج ممّا تقدّم أن هناك الكثير من أنواع الخلق عند الله لم أتطرق إليها، تاركاً القول فيها للقارئ الكريم، ولخطرات العقل في المستقبل فأسماء الله مئة في التمام الكلي، ولكل منها معنى في الخلق دال.

والله من وراء القصد؟

الهوامش:

(1) أستاذ في الجامعة اللبنانيّة في كلية السياحة وإدارة الفنادق. ومستشار التحرير في مجلة « إطلالة جُبيليّة».

(2) سورة السجدة، آية 9.

(3) سورة الحجر، آية 29.

(4) سورة ص، آية 72.

(5) سورة النحل، آية 8.

(6) سورة الرحمن، آية 14.

(7) سورة التغابن، آية 3.

(8) سورة الليل، آية 3.

(9) سورة العلق، آية 2.

(10) سورة الأعراف، آية: 179.

(11) سورة الشورى، آية:11.

(12) سورة آل عمران، آية 34.

(13) سورة البقرة، آية 117.

(14) سورة الأنعام، آية 101.

(15) مستدرك نهج البلاغة، ص 32.

(16) سورة فصلت، آية 10.

(17) سورة الأعلى، آية 3.

(18) مستدرك نهج البلاغة، ص 32.

(19) سورة العنكبوت، آية 20.

(20) سورة النجم، آية 47.

(21) سورة الواقعة، آية 62.