هل يمكن الحديث عن الرُّوح؟

06/09/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم مستشار التحرير الدكتور عصام علي العيتاوي

الرُوحُ: بالضم في كلام العرب، النَّفحُ، سمي رُوحاً لأنه ريحٌ يخرج من الرّوح. والرُّوح في الصفة الحالّة به مذكّر، وغير النّفس بصفتها المؤنثة. والإختلاف بالتذكير والتأنيث وإن كنا نستطيع تأنيث الروح أو تذكيرها، إلاّ أنه للنفس هي دائماً مؤنثة، وهذا ما يدعو إلى التعدّد والإختلاف بينهما، ما يشجع مقولة إن الإنسان، مؤلف من أقسام ثلاثة من حيث البناء الأوّلي الجسم والروح والنفس.

وبالإجابة عن السؤال المطروح عنواناً لهذا البحث، يمكن لنا أن نعالج الأمر، وفقاً لمفهومي العلم والمعرفة. فمن ناحية العلم الذي يأتي نتيجةً للأعمال التجريبية سواء أقمنا بها في المختبر وفق شروط طبيعية أو اصطناعية، أو قمنا بها في الطبيعة. فالمحصّل جرّاء هذه العملية هو محض علمي، من حيث كميته وماهيته وتأليفه جرّاء ما أفرزته التجارب المتتالية، في الشروط ذاتها ولإستنتاج النتائج ذاتها، ما يخوّل المجرّب الباحث، من إطلاق مفهوم قانون على العملية التجريبية في نهاية المطاف، وكذلك عندما نقوم بالتجربة في الطبيعة. كدراسة بعض سلوكيات الحيوانات وإنتشار بعض أنواع النباتات، والتغيّر الحاصل في الجمادات تأثراً بعوامل الرياح والضوء والنور... لكن كل هذه النتائج التي نحصل عليها، تبقى في إطار المتغيرات بالرغم من وجود قوانينها الدالّة. إلا أن بقاءها رهنُ هذه التغيّرات مرتبط ارتباطاً مباشراً، بتطور أدوات التجربة، التي تخضع دائماً لمقولة التطور التكنولوجي، وبهذا تبقى هذه الطريقة العلمية صحيحة حتى يتبين خطأُها ولو بعد حين. وفاقاً لما نراه في الكثير من النظريات العلمية، أو الفلسفية.

أما الناحية الثانية، أو المفهوم الثاني للمعرفة، وهي الطريقة العقلية التي تعتمد على المنطق العقلي في الوصول إلى دراسة الحالات المتعددة، فهي تعتمد على العقل في الأساس، وعلى الإستنتاجات من المعطيات المدروسة، بحيث تُصدِرْ بها حلاً قاطعاً، لا مجال لتغييره على مدى حركة الزمان باتجاه المستقبل. مثالاً على ذلك: قانون العليّة، الذي ينطوي على معرفة، أن لكل معلول علّة قائمة خلفه، منها سبب وجوده، كالطبيعة المخلوقة بكل ما فيها أن لها خالقاً. وهذا القانون لا يتغيّر بالإطلاق، وعلى هذا لا يمكن دراسة المحسوسات علمياً إلاّ من خلال التجربة لمعرفة مكوّناتها بالتفصيل الدقيق، أما الدراسات العقلية التي تبحث في المعقولات، فلها منهج خاص بها، مختلف عن سابقتها، يصل من خلالها الإنسان إلى معرفتها بشكل عام، ودالٌّ على كينونة مسبباتها.

وعليه فمسألة الرّوح كما وردت في الآية القرآنية الكريمة }وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً{ (1) هل يمكن لنا البحث فيها؟ أم أنها مُعطى لا يجوز السؤال عنه، أو الخوض في تفاصيله؟ أو أنه من المحرّمات المحظور على الناس التطرق إلى معناه. وقبل الولوج في الرد على هذه التساؤلات لا بُدَّ من تعريف المفاهيم، الواقعة في سياق الآية. كما يأتي: الروح، أمر ربي، والعلم القليل.

مفهوم الروح: كما جاء في الكتب اللغوية له معانٍ عديدة، الروح ما به الحياة، والروح هو الذي يعيش به الإنسان، والرُّوح خلقٌ من خلق الله ، والروح هو الوحي، أو أمر النبوة، ويسمى القرآن روحاً، وهو الفرح، والأمر والنفس، وأطلق على جبرائيل (الروح الأمين) و (روح القدس) وهو خلق كالإنس وليس هو بالإنس...(2) والروح عيسىt.

وقد اختلف العلماء في ماهيّة الروح، فقيل أنه جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان، وهذا مذهب أكثر المتكلمين، وقيل جسم هوائي على بنية حيوانية في كل جزء منه حياة... وقيل أن الروح عرض وقيل هو الحياة التي بها يتهيّأ المحل لوجود القدرة والعلم والاختيار(3).

وقال بعض العلماء أن الله تعالى خلق الروح من ستة أشياء: من جوهر النور، والطيب، والبقاء، والحياة، والعلم والعلو. ألا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانياً يبصرُ بالعينين، ويسمع بالأذنين، ويكون طيباً، فإذا خرج من الجسد نَتِنَ الجَسد، ويكون باقياً فإذا فارقه الروح بَلِيَ وَفَني، ويكون حيّاً وبخروجه يصيرُ ميتاً، ويكون عالماً فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئاً، ويكون علوياً لطيفاً توجد به الحياة بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء «بل أحياءٌ عند ربهم يُرزقون» فرحين وأجسامهم قد بليت في التراب(4).

إذاً فهذه التعريفات من وحي مفهوم هذه الآية الكريمة، غير منهيٌ التحدث عنها، إنما المنهيُّ عنه هو علم الروح، كمعطى دقيق، مما يتألف وسواه لذلك كان الجواب على: يسألونك عن الروح قّل علمها عند ربي.وهو الوحيد الذي يعلمها ولكّن الناس كلَ الناسِ يعرفونها كلٌ بحسب عقله.

مفهوم الأمر: هو الشيء الصادر من أحدٍ على سواه، وفي الأصل لا يكون الأمرُ إلا من الآمر، أي من له هذه الصفة بشكلٍ دائم، وتنطبق عندنا وفقاً لكل صاحب مركز ومسؤولية على من سواه. وهو بالإجمال «لمن هو دونك».(5)

والأمر هو الفعل، وهو «الحادثة» (6) أي الروح مأمورة بالوجود، وأمرَ: طلب منه فعل شيء، أو إنشاءه، فهو أمر، والروح مأمور بالوجود. وَأَمَرَ «طلب منه فعل شيء أو إنشاءه فهو آمرٌ وذاك مأمور. يقال أمره الشيء وبالشيء، وآمره أن يفعل وبأن يفعل» (7) وأمر الله سبحانه واقع بين الكاف والنون «فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون»(8)، وليس بين الكن والكينونة من مسافة زمنية للتطبيق، إذ لا تحتاج لا إلى مادة منها تنشأ، ولا إلى أدوات بواسطتها يتمّ الأمر، بل هو في لمحة بصر أو أقل، ينتقل عن عدم إلى وجود فور حصول فعل الأمر، من حيث الإرادة والشكل التام النهائي، ودون مقدمات وتهيئة مستلزمات.

مفهوم العلم: الذي جاء في مقدمة هذا البحث، وهو العلم بجزئيات الموجود، بإعتبار أننا نستطيع البحث في كل الموجودات سوى الواجد (الله)، أي أننا لنا الحق والقدرة والعقل، في علم ما لا نعلم، وذلك بتشجيع من الله تعالى على القيام بهذه المسؤولية، وهي من ضمن عملية استخلاف الإنسان في الأرض، بإستثناء البحث في ذات الله. لأنه؛ من المستحيل على العقل البشري أن يحيط بالعقل الكلّي، ومصير ذلك حتماً إلى المحال. كما البحث في ذات الروح يؤدي إلى النتيجة ذاتها. وبحثنا هنا يقتصر على آثار الروح، وهو مباح لكل من أراد الزيادة في المعرفة وغير ممنوع.

ومما يذكر أن قيصر الروم كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالبt مستفسراً عن الروح قائلاً: أُؤثر أن تكشف لي عن مذهبكم في الروح التي ذكرها الله في كتابكم في قوله: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي.

فكتب إليه أمير المؤمنينt يقول: أما بعد: الروح نكتةٌ لطيفة ولمعة شريفة، من صنعة باريها، وقدرة مُنشيها، أخرجها من خزائن ملكه، وأسكنها في ملكه، فهي عنده لك سبب وله عندك وديعة، فإذا أخذت ما لك عنده، أخذ ما له عندك والسلام(9).

وحتى نسهِّل على أنفسنا فهم الروح بالنهاية، كان لا بُدَّ من القاء الضوء على ما يأتي:

الروح عرفاً: لا يمكن تعريف الروح، تعريفاً مادياً، لأنها لا تقع تحت إطار المادة والتحيّز، ولكن يمكننا التعرّف على آثارها من خلال الحركة الصادرة عنها، أو من خلال النبض الذي يدل على وجودها، جرّاء تدّفق الدم من القلب في الشرايين والأوردة، أو من خلال عملية النمو.

وما يمكن التعبير عنه بألفاظ التشبيه فقط، بأنها مطلق اللطافة والنورانيّة، ما يندرج كله تحت قول الإمام عليt، بأنها نكتة لطيفة ولمعة شريفة، أي مخلوق في منتهى الصغر في الروحانية يلائم جسده، ونور قائم بذاته، يضفي على صاحبه البصر والبصيرة.

صناعتها: لا تحتاج كأي خَلقٍ من خالقها، إلى تصميم وأدوات، بل هي عبارة عن فعل الكن، فيكون (صنعة تامة، وقدرة كافية)، متحدان جراء الأمر الإرادي لله تعالى، فالصانع هو نفسه الخالق المقدّر، الذي علا فوق قدرة العقل العاقل بتجرّده منذ وجوده وسيظل رغم تقدمه غير قادر وغير محيط بما هو أكبر.

مكانها: المكان بحد ذاته لم يكن فكان أيضاً، مع ما يصاحبه من الزمان، وهو عبارة عن الحدود في الحيزّ المعّين بأبعاده السبعة، الطول، العرض، العمق، المساحة، الفوق، التحت،الحجم. إنما الروح لا تخضع لهذه الشروط، لأنها لا تتحيّز مجرّدة، بل تبقى في العالم الفسيح محيطة سابحة مسيِّرة لكل ذي نفس من خلال حركته، لا تسعها خزائن الأرض مهما عظمت، بل سكنها خزائن باريها، التي لا يعلمها إلا هو، قبل وجود أجسامها، في الزمن الأول، أما في الحياة الدنيا الزمن الآخر، فهي تُعنى بالنفس مرجع الجسم ولها قيادتهما إلى أجل مسمى.

دورها: بحسب القدرة النهائية للعقل في التوصل إلى سر الكائنات والتعرف عليها، من خلال قانون السببية، فهي سبب من مسببها، عملها قائم بحياة النفس التي تعمل على بناء الجسم ومّده بكل حوائجه، وإدارة غرائزه، حتى يستقيم الإنسان في وسطه الإجتماعي الذي يعيشه، ما يؤدي إلى حسن إدارته وقيادته وتدبّره، لمدة زمنية محدّدة ومقدّرة سابقاً على وجوده، ثم لا تلبث أن تفارقه؛ لأنها تعتبر في بعدها الأقصى عبارة عن وديعة، ترجع في اللحظة المحددة لها إلى إرادة مودعها، لتبدأ سيرة جديدة في عالم آخر جسم آخر للكائن نفسه. أي بما يلائم ذلك العالم، لا غير ذلك مطلقاً.

زمنها: يبدأ من حيث نعلم ونشاهد، منذ زمن الحمْل عندما يظهر لغير الحامل نفسها، إنما المعلوم عن صاحب العلم الأول الرسولw، إنها كانت في عالم يدعى الذّر عند خالقها، في خزائن ملكه، ثم يندرج في عوالم أخرى، الظهور، الأرحام، الدنيا، البرزخ حتى يوم القيامة عالم الحيوان الذي لا موت معه أبداً وهي الحياة الأبدية، التي تبدأ ولا تنتهي، وفقاً لعملية حسابية في منتهى الدقة، قائمة على المنفعة التي لا يشوبها مضرة بالإطلاق في مكان وزمان، غير المكان الذي نعلم والزمان الذي نعرف. حيث كما جاء في الحديث الشريف «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»(10) غاية الإطمئنان ونهاية الراحة، حيث لا ماضٍ ولا مستقبل، ماضٍ قد يُحزِنُ صاحبه في أدنى نسبة، ومستقبل قد يهمُ منتظره بأي نسبة كانت، بل في حاضر يتحقق فيه كل ما يتمناه الإنسان الفرد، لا يأسفُ على ماضيه ولا يسعى لغير ما هو فيه. ذلك وعد الله يلقاه من يعتقد بصدق حدوثه في الزمن القريب.

 الهوامش:

  1. (1) ابن منظور، «لسان العرب»، ج 5، داراحياء التراث، بيروت، 1999، ص 359.
  2. (2) ابن منظور، «دار إحياء التراث»، بيروت، 1999، ص 361.
  3. (3) الطبرسي، «تفسير مجمع البيان» ج5، 6، ص 437.
  4. (4) الطبرسي، «تفسير مجمع البيان»، ج 5، 6، ص 438.
  5. (5) الطبرسي، «تفسير مجمع البيان»،ج7، 8، داراحياء التراث، بيروت، ص 434.
  6. (6) الطبرسي، «تفسير مجمع البيان»،ج1، داراحياء التراث، بيروت، ص 204.
  7. (7) «المنجد في اللغة والإعلام»، ط 37، دار المشرق، بيروت، 1986، ص16.
  8. (8) سورة يس، آية 82.
  9. (9) مروة، يوسف، «العلوم الطبيعية في تراث الامام علي»، مكتبة الهلال، بيروت، 1983، ص 82.

(10) «صحيح البخاري»، حديث رقم 7498، والكرماني أحمد، راحة العقل، ط2، دار الاندلس، بيروت، 1981، ص 522.