المرحوم وواجب العزاء

15/12/2014
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الدكتور عصام الحاج علي العيتاوي(1)

منذ خلقت الحياة والموت، قائم فيها، حتى أن الموت تقدم على الحياة، لقوله تعالى: }خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً{ سورة الملك، آية:2. وبلاء الإنسان ينحصر في حسن الإختيار بين الحق والباطل خاصة إذا وقع في شبهة الحيرة في قضاء حاجته من العمل المحبب إليه، وعلى كل الأحوال فإن أيام المخلوق معدودة مهما كثرت، وامتدت به السنون، إذ لا بُدّ يوماً من ملاقاة الموت. جاء في القرآن الكريم:
}
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.{ سورة الجمعة، الآية:8. ولم يقل بما كنتم تفعلون لأن؛ العمل غير الفعل فالأول يقع عن سابق تصوّر وتصميم، أي عن نية مسبقة، بينما الثاني يقع دون نية.

والموت في الفكر الإسلاميّ، يعتبر بداية لا نهاية، وهو أشبه ما يكون بعملية إنتقال من مكان لآخر، من مكان يقع تحت حاسة بصرنا، إلى آخر ما وراء الطبيعة، لا يمكن الإحاطة به إلا بمقدار بصيرتنا، وما نكتسبه من معارف وتفسيرات للآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة والإماميّة الدّالة. باعتبار علم الغيب لا يستطيع الإحاطة به، إلا من أُطلع عليه.

نحن والموت: كما لكل بداية نهاية، فإنّ المولود يوماً حتماً مفقود في يوم آخر، }إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{، سورة البقرة، الآية: 156. أو (سبحان الحي الباقي)، أو}يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً{ سورة الفجر، آية: 27 ـ 28.

ثُمّ نكمل النص كالآتي: إنتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، أو إنتقل إلى رحمته تعالى فقيدنا(ة) وعزيزنا(ة) المرحوم فلان الفلاني ( وسوف أعرّف المرحوم لاحقاً).. ومن ثم ننهمك بإعداد الميت، غسله، تطهيره تكفينه، تهيئة بيته الجديد (القبر)، مع المسارعة إلى تحضير آلات ومكبرات الصوت لقراءة القرآن عن روحه ونفسه، ثم إرسال النعوات إلى أصحابها، من الأهل والأقارب والأصدقاء والمعارف في الوطن والغربة، إضافة إلى النشر في الصحف والإذاعة والإستفسار عن الحال، وما طرأ على المرحوم (وكلنا يوماً هو المرحوم) والمواساة بالطرائق المعتادة التي يتداولها أغلب النّاس وهي من العادات التي تمارس في مثل هذه الواقعة.

المرحوم: ما معنى هذه الكلمة؟ إنّها تعني المحتاج لطلب الرحمة بكثرة، والرحمة هي العطف عليه، والإحسان إليه، ورَزقه الجنّة، وهذا عمل لا يستطيعه إلا الله تعالى. وحتى نستطيع أن نفيد المرحوم وندعمه ونساعده، بعد أن فقد كامل قدرته على العمل، واضحى في عداد الآية الكريمة (وكلنا سنكون يوماً هكذا):}حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{ سورة المؤمنون، آية:99 ـ 100.

المعزّون ودورهم: ينقسم المعزوّن إلى أقسام، فمنهم المتأسفون المتفجعون على الفقيد، ومنهم من يأتي للواجب، ومنهم لرفع العتب إكراماً لأهل الميت، ومنهم تلبية لعادة العزاء في المجتمع والتداخل الإجتماعيّ في مثل هذه المناسبات، ومنهم ومنهم... وهكذا تتعدد الغايات ويجتمع الكل في مكان واحد، تدور الأحاديث في ما بينهم بأغلبها بما لا ينفع (المرحوم) في شيء، في السياسة والتجارة والإقتصاد وغيرها، والقليل منهم من يقرأ الفاتحة (عرفاً)، القرآن الكريم يتلى بمكبرّات الصوت والأحاديث قائمة، لا يقطعها إلا وصول أحد المعزين قائلاً الفاتحة وكذلك (عرفاً). لكن المطلوب الإستماع والإنصات لصوت القرآن.

التعابير والألفاظ المستعملة: لكل عادة إجتماعيّة تعابير وألفاظ، التجمع في حالة الوفاة واقعة إجتماعيّة، ولكل تقليد ديني تعابير وألفاظ خاصة به. ففي الحالة الأولى تراعى الأقوال والمعايير الإجتماعيّة، وفي الثانية تتداول العبارات التي تطال المتوفى بالفائدة والخير لتعمم الرحمة عليه، والتي لا بُدّ من لفت النظر إليها، حتى يعاد تداولها اليوم لنفع (المرحوم) الذي ذكرنا معناه سابقاً. ومن الألفاظ التي يعزّى بها ونسمعها من النّاس ما يأتي: العوض بسلامتكم، إن شاء الله تكونوا وارثين عمره، ما تشوفوا مكروه بعده، إن شاء الله خاتمة الأحزان، الله ....، إن شاء الله فداكم، بسلامة الدين والإيمان، خاتمة الأحزان... والله يعوض عليكم (إذا كان المتوفى من الأطفال)، الله يخلّي الموجودين، هيدا طير من طيور الجنَّة...

بينما الواجب الدافع الديني الذي لا بُدّ من قوله هي التعابير الآتيّة: الله يرحمو، عظَّم الله أجوركم، الله يغفر ذنوبه ويتلطف به، الله يسامحه، الله يوسِّع عليه قبره وينوره، الله يجعل مثواه ومسكنه الجنَّة ويجعل قبره روضة من رياض الجنّة، ولا يجعله حفرة من حفر النّار، الله يصبركم على مصيبة الموت ويرحمه، هم السابقون ونحن اللاحقون رحمه الله وإيانا ورحمنا وإياه... وإذا كان من الأطفال، الله يخلف عليكم ويكون مصيره إلى الجنَّة...

هذه العبارات كلها فيها أدعية وتمنٍ على الله أن يرحم المتوفى ويتغاضى عن سيئاته ويفيض عليه بالرحمة والمرحمة. وهذه خلاصة وفائدة حديث رسول الله محمدP، من أمره للنّاس بأن ينعوا موتاهم. فتجمع النّاس في صالة الوفاة، الغاية منه الدعاء للميت، خاصة وهو في أول يوم من أيام آخرته، لا للتجمع والتكلم بأحوال الدنيا كما هو المعلوم، والتحدث بالسياسة والتجارة والإقتصاد... بل المطلوب كثرة الدعاء للفقيد والطلب من الله أن يرحمه ويغفر له تحت شعار «أدعوني استجب لكم» كما جاء في كتاب الله.

فليكن همنا جميعاً، مع بعضنا بعضاً، اليوم عندنا وغداً عندكم أن نتقن القيام بواجب التعزية من أجل الأجر والنفع، لا من أجل رفع العتب، ولندعو بما نستطيع للمتوفى من أجل رحمته وإدخاله الجنّة. ليرحمه الله ويرحمنا، والله خير مجيب.

الهوامش:

 

الدكتور عصام الحاج علي العيتاوي، أستاذ جامعي. وعلم من أعلام بلاد الأرز تكلّم عنه وعرّفه الأستاذ أنطون م. فضّول في 18 أيلول 2014م. في الحلقة: 19 من كتابه وقدّم له درعاً تقديريّة في إحتفال تكريمي في بيت عنيا ـ حريصا. راجع الخبر في هذا العدد من «إطلالة جُبيليّة