السيدة مريم في القرآن الكريم

4/1/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

 للعلاّمة الشيخ محمد حسين عمرو (1)

هي مريم بنت النبيّ عمران والسيّدة حنّة o، وهي المولودة الغالية المنذورة نُطفةً وجنيناً في رحم الغيب «خادماً للربِّ ». وهذا معنى كلمة مريم في لغة قومها، وهي بعد خُلاصة شوق وثمرة انتظار عاشه أبواها، لتنفرد به أُمَّها في المراحل الأخيرة من حملها بها لأن الله قد اصطفى مرةً أخرى أباها..اليه.

اعتنى القرآن الكريم بشأن مريم u، عنايةً لم تنلها امرأة قط. فالآيات النيّرات من سورة آل عمران تُبرِزُ عناية الله بها وتتابع بدقة وصف التفاصيل البسيطة في أولى خطواتها محمولة على أجنحة الوفاء بالنذر المستحيل على أبواب معبد من معابد ذلك الزمان. ففي الآية السابعة والثلاثين من سورة آل عمران وبعد أن وفت والدتها نذرها. }فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْز ُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ {.

رزق مجهولُ المصدر. مُعجِزةٌ أولى في حياة الطفلة النذيرة، وهي أولى النعم العظمى التي أولاها الله لمريم دون سائر النساء لتَنعُمَ بها في زمان آخر ومكان مُختلف فاطمةٌ بنت محمد w. إرادة إلهية عظمى وضعتها على دروب المعبد. منذ أن تكوّنت سراً من أسرار الخالق في رحم أمها، وعندما اكتملت صورةً بين هياكل المعبد سألها زكريا } يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا {. وجاء هذا السؤال ليرسم حياتها بأعجوبة تليها أخرى، وبهذا الصدق البارز في ما تبقّى من آيات واجهت مريم قومها في استحقاق آخر، بهذه الطريقة تزيّنت طفولتها في محرابها وبهذا النقاء كتب القرآن بأحرف من نور سطور الأسس العظيمة في بناء شخصية أم عيسى، وهذا ما اكدته الآيتان الثانية والأربعون والثالثة والأربعون من السورة نفسها حيث تتابع عدسة التصوير القرآنية رصدها لموقع مريم عند خالقها:} وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين {. آل عمران،42. ما زال النّص القرآني يعتمد أسلوب السرد القصصي لأحداث ماضية في زمن غابر، وإن كان قد أشار في كلمة }اصْطَفَاكِ{ الثانية الى اصطفائها أمّاً، بعد أن أشار الى اصطفائها سابقاً طفلةً نذيرةً في الهيكل خلافاً للمألوف في عصرها. ثمة فعل أمر يوجّه مريم نحو الدعاء والسجود والركوع وهذه الأفعال هي كُلهَّا تقرير بصفة امرأة لما كانت عليه حال مريم في المعبد، هذه الحال الروحانية الصافية في أجواء الخلوة عن كل ما هو دنيوي وبشري والانقطاع الكامل الى عبادة الله، كل هذا تحت عنوان التحضير الإلهي لشخصيّة مريم u، مريم، لكيانها الأنثوي الرائع الذي لم تستطع كل ألوان الرسامين وريشاتهم في معرض تخيّل ملامحها الملائكية التعبير، رسم ذلك الاختلاج الرائع الذي فاضت به نفسها العابدة عندما جاءتها الملائكة تبشّرها بالحدث المهمّ وذلك في الآيات الخامسة والأربعين والسابعة والأربعين من سورة آل عمران: }إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ {.

في هذا النص تتابع السيدة مريم u، تلقّيها للأحداث ولكنها تتدخل عندما يُدخلها أحد هذه الأحداث في جو من الغرابة فتعلن بتلقائية استعظامها لهذا الحدث كما يعلن العلاّمة الكبير الشيخ محمد جواد مغنية (قده) لا استنكارها كما في آراء بعض المفسّرين. وهذا الاستعظام أوّل ردة فعل رصدها كتاب الله لأم عيسى o، وهو المدخل الرئيس لدراسة حركة السيدة مريم المميزة لها في سورة أخرى تناولت الحدث المستعظم بتفصيل أكبر. لذلك تدخل مباشرة الى سورة «مريم» حيث امتدت هذه السورة الرائعة المعتبرة من طوال سور القرآن الكريم، مسرحاً تحركت عليه السيدة العذراء في أصعب استحقاق واجهته سيدة في زمانها لنراها تمتلك في هذه السورة مساحة أربع عشرة آية من أصل ثمانٍ وتسعين آية تناولت سير الكثير من الأنبياء. احتضنت هذه السور تاريخاً مجيداً فتقلبت صفحاته على مستند العفة والعبادة اللائق بحجم الاستحقاق الثاني الذي اصطفاها له ربُّ العزّة. أيُ إعزاز يفوق إعزاز الله لمريم في سورة تطالعنا بذكر نبيين اثنين قبلها وهما عمران وزكريا o، ومع ذلك لم تحمل السورة الطويلة اسم واحد منهما بل تزيّنت بأحرف اسمها الجميل عنواناً نقرأ من خلاله موضوع السورة مريم..

عنوان طُهر وأحرف ضوءٍ ضمّها شلال النقاء الى بعضها فصارت كلمة تترنم بها كل طاهرة لاذت بصرح العفة المريمية.

إنها سورة مريم تعرض لنا وبأسلوب قصصي مشوّق احداث ماضٍ بعيد ولكنه طغى على زماننا كلما سمعنا قارئاً يتلو بخشوع } وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا { سورة مريم، الآيات 16و17و18و19و20و21و22.

بعيداً تأخذنا كلمات ربِّ العزة، ليعيدنا الصمت الذي يليها ببطء الى واقعنا، إلى مكاننا وزماننا، كالطيف اللطيف يطلُّ علينا وجه عابدة الربِّ وجه مريم وإن كانت الأفعال الماضية المتوالية في سياق هذا المقطع تفرض لهذا الوجه الأنثوي البالغ الرقّة حضوراً أقوى من حضور الطيف وأشدُّ رسوخاً في بال المتلقين حيث تستند هذه الأفعال الى مريم كفاعلة لها، أي كصاحبة قرار ومالكة خيار حيث قرّرت اعتزال أهلها والاحتجاب عنهم لأمر عبادي تعبدي كما تقول التفاسير. وفي خضم عبادتها هذه يفاجئها روح الله.. متمثلاً ببشر سوي لأن استعاذتها بالرحمان في مطلع كلامها تختزن كل انفعالات المفاجأة التي تستولي على المرء حيال حدثٍ لم يكن يتوقعه. تضيء هذه الإجابة السريعة اللاهفة في شخص مريم حالاً من الوجد والخوف الذي لا يطمئن إلا في رحاب الله. لذلك لجأت اليه واستعاذت به في أوّل رد فعل مباشر أمام مجهول أحاط بكل كيانها. وهي في مكانها الشرقي وقد تمكنت هنا الحال النفسية التي استولت على مريم بالناحية الإبلاغية عندها لتعلن لنا وللملأ حضوراً مميزاً لخالقها في وجدانها حيث تقدّمت كلمة الرحمان على حضور هذا الغريب ذلك البشر السوي الذي كان حتى تلك اللحظة مجهولاً. يخضع سياق هذا المقطع لحركة حوارية مميزة ترسم في سورة مريم مساحة مسرح يتسع لكل خطواتها البارزة والخفية في آن، هذه الخطوات المتتابعة الإيقاع للمستجدات المهيبة، فهي التي بدأت القول في إعلان مُتخفّ لمفاجأةٍ غير متوقعة لوجود رجل غريب في سابقةٍ لا مثيل لها في حياتها، وجبريل الروح الأمين يجيبها دون فصل مُعلناً شخصيته، مُقدّماً تفاصيل هويته كي تطمئن وتستعد لاستقبال البشرى فتأتي كلمة «إنمّا» لينفي أحد أسباب خوفها من اقتحام رجل مجهول خلوتها. وليؤكد حقيقة البشرى التي تلقتها في ما بعد بالرضا والقبول المشوبين بالخوف والاستغراب الذي بدا جلياً في إجابتها المتسائلة عن غرابة واقع حالها قياساً لما هو مطلوب منها } أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ...{ ثمة لافتة مُهمّة في إجابة السيدة الأخيرة لجبريل، إنها تعكس حقيقة وعي فتاة المحراب لأبسط قواعد نشأة الحياة وتخليقها وأكثر من ذلك هي إجابة تعكس فهماً عميقاً للمبادئ الفذة والقائمة على أساس الفضيلة والعفة.وهذا الوعي والإدراك للقانون الطبيعي في تكوين الخليقة لا ينفي الروحانية الرائعة التي نشأت عليها نذيرة الهيكل وحفيدة الأنبياء. لأنها وفي احتدام صدمتها وصراعها بين الرّضى بمهمة مستحيلة والخوف من مجاهيلها لا تنسى أن تُعلن لجبريل طهارة مسلكها وعفتها. لذلك تابع جبريلt حواره معها، مقدّماً لها أوراقاً ثبوتية لأغرب مهمة في تاريخ الخليقة، إنجاب نبيٍّ وليد دون أب لعذراء بكر ما عرفت من دنياها إلا محراباً رُزقت فيه فاكهة الصيف شتاءً وفاكهة الشتاء صيفاً. وبعد اقتناعها بأمر اراده الله امتثلت مريم وحملته جنيناً ومضت به على تناقض من خوف وشوق وعلى متابعة من العناية الإلهية لحالها ساعدتها في إيجاد مكان قصي بعيد عن ألسنة قومها الحداد التي لا ترحم. وهناك ألجأها المخاض المُحاط بأكثر من الألم، بالرهبة، وبذلك الخوف النسائي القديم الأزلي على العِرض والسمعة إلى جذع النخلة، وهناك ووسط آلام هذا المخاض الذي كان حياةً للإنسانية جمعاء، أعلنت مريم خوفها الذي ما ألفته آلام التجربة الأولى في حياة كُلِّ امرأة، أعلنت أمنيتها بالموت إحساساً منها برهبة الموقف وخطورته رغم اطمئنانها لرعاية الله، إذ كيف سيستوعب قومها أنها تنجب وهي العذراء التي كانت وستبقى أخت هارون التي ما كان أبوها امرأ سوء وما كانت أمها بغياً كما واجهوها؟.. هل سيفهمون صدقها عندما ستخبرهم عن إرادة الله في عيسى بالكلمة ـ النبوة السامية عن كل نتاج بشري؟ } يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا{ كان خوفها مسؤولاً وواعياً. مسؤولاً عن ماضٍ مجيد بين هياكل المحراب وواعياً لحقيقة التفكير البشري المحدود أمام «عظمة الإعجاز الإلهي» لذلك اطمأن هذا الخوف بعد أن أسمعتها العناية الإلهية، صوت وليدها المُفدّى يطمئنها برفق:} تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ...{ وتابع الصوت النبوي الوليد إرشاداته ورعايته لامرأة وحيدة من كل شيء حتى في فرح أمومة لا شبيه ولا سابقة لها.

وهزّت مريم جذع نخلة يابسة بإحدى يديها فتساقط عليها كرامة من الله ـ رطباً جنياً في غير موسمه ـ وثقة المؤمن ورجاؤه الكامل بالله.

أتت به قومها تحمله..واتوها سراعاً بحكم الوهلة الأولى } لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا { وفي شموخ امتلائها إحساساً ببراءتها، وبعنفوان أشدِّ النساء تُقىً وعفةً وورعاً أشارت إليه موقفةً سيل التساؤلات التي تدفقت عليها مُذكرةً إياها بسؤال قديم } قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ... { وكان هذا عيسى t، الناطق في مهده صبياً، والحامل بعينيه وداعة أمه وبلسانه براءتها وبحنانه الممتلئ نعمةً من الله إيمانها وثقتها. وخاضا معاً التحدي الكبير في عيون القوم التي اتسعت حولهما تحاصرهما معاً بالشكوك والريبة.

 

كان الجو مشحوناً بالمُعجزات.. طفل يلقى من الله كلمة.. وبيان صادر عن وليد لحظته، يلقيه هذا الوليد بلسانٍ مُبين لتبقى ابنة عمران بنظر العالمين جميعاً، دوحة عُطر فاضت على الكون في كل زمان ومكان حُبَّاً وأمناً وسلاماً، وليرى قارئ سورتها (2) العظيمة كلما ردد ما قاله الله فيها وعلى لسان وليدها الإشارة العظيمة في يدها الأخرى التي كانت وحدها الرّد الأسمى للخالدة في القرآن..العابدة..طُهراً ونقاءً..