كتاب نهج البلاغة للإمام عليِّ بن أبي طالب (ع) نموذجاً -النثر في عصر صدر الإسلام - الحلقة الثانية

4/1/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم: د. يسري عبد الغني عبدالله

 المبحث الأول : النثر في عصر النّبوة .

المبحث الثاني : النثر في عصر الخلفاء الراشدين

تمهيد

التعريف بعصر صدر الإسلام :

يبدأ عصر صدر الإسلام مع بداية البعثة النّبوية للرسول مُحمّد (ص) ، وينتهي بانتهاء عصر الخلفاء الراشدين، وأيام سبط رسول الله الإمام الحسن (رضي الله عنه)، إلى قيام دولة بني أُميّة على يد معاوية بن أبي سفيان عام 41 هـ .

وهو من أهم العصور في التاريخ الإسلامي، وأكثرها تأثيرًا في حياة العرب والمسلمين، ففيه بدأت الدعوة الإسلامية وانتشار دين جديد، ذلك الدين الذي أنقذ البشرية كلها من الضلال والجهل، ووصل بها إلى مرسى الأمان والسلام.

الأنواع النثرية في عصر صدر الإسلام:

إن النثر في هذا العصر قد تعددت ألوانه، واختلفت من حيث الموضوعات والمعاني، ومن خلال ما أُثر من نصوص نثرية لهذه الفترة من الإسلام، يمكن أن نحدد أهم هذه الأنواع في ما يلي:

ـ الخطابة:

تُعَدُّ الخطابة أكثر الفنون النثرية أهمية من الناحيتين الفنية والوظيفية، وقد كان للخطيب في العصر الجاهلي مكانة مرموقة، فاقت منزلة الشاعر في كثير من الأحيان، يقول أبو عمرو بن العلاء:« كان الشاعر في الجاهلية يُقدّمُ على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم، ويخوف من كثرة عددهم، ويهاجم شاعر غيرهم، فيراقب شاعرهم، فلما كثر الشعر والشعراء، اتخذوا الشعر مكسبة، ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر » (2)

لا عجب إذن أن نجد الخطابة في مقدمة الأنواع النثرية في صدر الإسلام، حيث كانت في خدمة الإسلام في أغلب الأغراض، فقد ساهمت في بناء المجتمع الإسلامي الجديد.

ـ الكتابة:

كان للكتابة دورٌ بارزٌ لاسيما عندما يتصل الأمر بدعوة الأمم والممالك إلى الدخول في الدين الجديد، والعهود والوثائق التي كان يكتبها الرسول محمد (ص)، أو التي كان يكتبها الخلفاء الراشدون لمن يولونهم أمور الولايات.

الوصايا :

اقتصرت الوصايا في العصر الجاهلي على حكمائهم يوصون فيها قبائلهم عند حضور الوفاة، أو حين توصي الأمهات بناتهن عند الزواج، أما في الإسلام فقد أفاد منها الخلفاء في وصاياهم لمن يتولى الخلافة بعدهم، وكذلك عند الفتوحات الإسلامية، والجهاد في سبيل الله.

تلك كانت أهم أنواع النثر في هذا العصر، وسوف نمضي قدمًا نحو دراسة الخطابة والكتابة فقط حتى نستخلص السمات الفنية العامة للنثر في عصر صدر الإسلام بطوريه.. (عصر النّبوة وعصر الخلفاء الراشدين )

المبحث الأول

النثر في عصر النّبوة

فن الخطابة

تمهيد :

الخطابة فن من فنون النثر الشفاهي مرتبطة في ظهورها وتطورها بالثقافة الشفهية والعقلية، وقد عرفها العرب منذ أقدم العصور، واتخذوها وسيلة لعرض قضاياهم في السلم والحرب، فهي « فن أصيل عند العرب أصالة الفصاحة والبيان عندهم » (3)، هذا بالإضافة إلى إقناع المستمعين بتلك الآراء واستمالتهم، أو للمعارضة وإعلان الرفض وغير ذلك من الموضوعات. ومن هذا المنطلق كان هدف الخطابة الأساسي هو التأثير والإقناع، معبرة آنذاك عن رأي الخطيب وفكره » تشتد باشتداد الأزمات التي ترتبط ارتباطاً جذرياً بمصير الجماعة وتقرير مستقبلها، وترجحها بين النزعات والتيارات التي تحدق بها. فهي ربيبة السلاح، تواكبه وتعوّض عنه، وأحياناً كثيرة تشحذه وتحفزه وتقتحم ملاحم الدمار (4)» .

عناصر الخطابة:

تقوم الخطابة على أساس الاتصال المباشر بين المتحدث والمتلقي، بواسطة اللغة المنطوقة، ومن هنا كان الأصل في تذوقها والاستمتاع بها والتأثر بما يرد فيها عندما تسمع لحظة إلقائها وهذا لا ينفي إمكانية قراءتها بعد تدوينها في عصر الكتابة.

ومن هنا يمكن تحديد عناصر الخطبة في ما يلي :

ـ المرسل، ويسمى الخطيب.

ـ الخطبة، وهي موضوع الاتصال.

ـ المرسل إليه، وهو جمهور المستمعين، على اختلاف ثقافتهم وآرائهم وميولهم.

ـ الاستماع، ويكون عن طريق الأذنين لتلقي الكلام المنطوق.

ـ الإبصار، عن طريق العينين لرؤية الخطيب وطريقته في أداء الخطبة.

ـ الموقف، وهو المناسبة التي من أجلها ألقى الخطيب خطبته.

ـ اللغة، وهي الألفاظ المنطوقة المعبرة عن الموضوع والتي من خلالها يفهم المتلقي غاية الخطيب من الخطبة.

وَتَعدُّ فترات التحول والانتقال في المجتمع من أهم عوامل ازدهار الخطابة سواء كانت هذه التحولات سياسية أو دينية أو عسكرية أو اجتماعية أو حزبية، ومن هنا ازدهرت الخطابة الحربية والاجتماعية والدينية في العصر الجاهلي، وازدهرت الخطابة الدينية في عصر النبوة، كما ازدهرت الخطابة السياسية والحربية في عصر الخلفاء الراشدين، أما الخطابة الحزبية والحربية والسياسية فقد ازدهرت ازدهارًا ملحوظًا في العصر الأموي.

بناء الخطبة :

مما لا شك فيه أن الخطبة في العصر الإسلامي (عصر صدر الإسلام وعصر الخلفاء الراشدين )، وكذلك العصر الأموي قد تطورت بمقارنة الخطبة الجاهلية في موضوعاتها وأساليبها، فقد ظهر فيها التأثر بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، والأمر الوحيد الذي لم يتغير بتغير الزمان هو بنية الخطبة ، لأن البنية أساسية ثابتة لا تتغير.

فقد عمد أرسطو في كتابه (الخطابة) إلى تقسيم بنية الخطبة إلى أقسام ثلاثة، وقد كان «التقسيم الذي أقامه أرسطو للخطبة هو تقسيم نظري ، وليد قدرته الفائقة على التجريد والتنظيم والتنسيق ، أكثر مما هو منقول عن واقع الخطابة (5) » .

وتتكون بنية الخطبة من ثلاثة أجزاء هي: المُقدّمة / العرض / الخاتمة، وسوف نقوم بدراسة تلك الأجزاء، والتعرف إلى شروط كل جزء منها على النحو التالي:

أولاً: المُقدّمة:

المقدمة هي مُستهل الخطبة، يتوسل بها الخطيب، ليمهد لآرائه وأفكاره، ويستثير عاطفة السامعين ويجذب انتباههم. وقد عُرفت مُقدّمات الخطب بعدّة أسماء، منها: صدر الكلام عند عبد الله بن المقفع، والتصدير عند الجاحظ، ومفتاح الخطبة عند ابن قتيبة الدنيوري. ومع اختلافهم في المسمى فقد اتفقوا جميعاً على وجود المقدّمة، كما حددوا أهميتها في تهيئة أذهان المستمعين لما سيتمُّ عرضه عليهم، وكلما برع الخطيب في اختيار المقدّمة الملائمة للموضوع تفوق في إقناع المتلقين بحديثه وما سيعرضه من أفكار وآراء.

فعلى « نجاح المقدّمة أو فشلها يتوقف نجاح الخطيب أو فشله. فإذا وُفق في إقناع السامع بخطورة حديثه، وأهمية الأفكار التي يتولى معالجتها، يكون قد مَهَدَّ لنجاحه في خُطبته. والحاجة إلى المُقدّمة في الخُطبة تختلف بالنسبة إلى الخطباء والمواقف. فثمة خطباء ليسوا بحاجة إلى مقدّمات، وبخاصة أولئك الذين يخطبون في جمع من أنصارهم، أو المندفعين إلى تأييدهم، وهناك الذين يفدون إلى المنبر، بعد أن سبقهم إليه خطباء آخرون، مهدوا للموضوع، واستثاروا الانتباه إليه إلا أن المقدّمة تبدو أكثر ضرورة، فيما يكون السامعون عازفين عن السماع إلى الخطيب، وبخاصة إذا كان الخطيب مغموراً، أو كان يتولى الحديث إلى نفر من السامعين الذين يحملون ضغينة سابقة، أو يرون رأياً يخالف رأيه، وينضوون إلى عقيدة تخالف عقيدته، فالمقدّمة في مثل هذه الأحوال ضرورية، وعليها يتوقف نجاح الخطبة » (6)

ولأهمية المقدّمة نجد النّقاد والبلغاء يحثّون الخطباء على العناية بها والدقة في اختيار ألفاظها، ففيها تكمن براعة الاستهلال.

هذا، وقد اتفق القدماء على ضرورة تحقيق شرطين أساسَيْن في المقدّمة، هما:

الشرط الأول : (شرط ديني)

ويتمثل في ضرورة افتتاح الخطبة بعد البسملة وإلقاء السلام على المستمعين بالتحميد والتمجيد، وتزيين الخطبة بالصلاة على النبيّ مُحمّد (ص)، مع ضرورة اقتران الخطب الدينية بالتشهد، وهذا ما أشار إليه الجاحظ عندما ذكر خُطباء السلف وأهل البيان يسمون الخطبة التي لم تبدأ بالتحميد البتراء، والتي لم توّشح بآيات القرآن الكريم، وتزين بالصلاة على النبيّ مُحمّد (ص)، بالشوهاء (7).

الشرط الثاني : (الشرط المتعلق بموضوع الخطبة)

يتعلق الشرط الثاني بموضوع الخطبة، أي ينبغي على الخطيب اختيار مقدّمة توحي بموضوع الخطبة، وكذلك أوصوا بضرورة ـ على نحو ما قال الجاحظ: « وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك... فرق بين صدر خطبة النكاح، وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة التواهب، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عَجُزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك (8) ». ومن هنا اختلفت مقدّمات الخطب باختلاف موضوعاتها.

ثانيًا : العرض (الموضوع) :

للموضوع أهمية كبيرة حيث لا تقوم الخطبة بدونه، ومن ثُمَّ يجب أن يشتمل على وسائل إقناع متباينة، وللموضوع شروط أهمها:

الشرط الأول: (الوحدة والترابط)

تتحقق الوحدة مع الترابط عندما يتناول الخطيب موضوعاً واحداً، بحيث تكون أفكاره متسلسلة تسلسلاً منطقياً في سلاسة ويسر، فعلى الخطيب ألا « يدفع أفكاره إلى السامعين دفعة واحدة، بل على أقساط، حتى تتسرب إلى نفوسهم، ويؤمنوا بها، وينقادوا إليها دون أن يشعروا (9) ».

الشرط الثاني: (الوضوح):

الشرط الثاني يتمثل في الوضوح ، فيجب أن يكون كلام الخطيب واضحًا ، فالألفاظ الواضحة تَسهلُّ على السامعين إدراك المعنى وفهمه ، خاصة إذا كانوا من العامّة.

الشرط الثالث : (استخدام الأدلة):

وهذا الشرط الثالث نجده في أساليب الخطباء لإقناع المستمعين، وذلك عن طريق استخدامهم لبعض الأدلة التي تحقق لهم هذا الهدف، ومن هذه الأدلة (الأدلة النقلية)، فيجب على الخطيب الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأبيات الشعرية والأمثال، وهذا من شأنه تزيين الخطبة للمستمعين وإقناعهم بما ورد فيها، وتأكيد المعنى في نفوسهم.

ثالثاً: الخاتمة:

ذكرنا سابقًا أن المقدمة تهيئ السامع للتأثر، وتجذب عواطفه، أما الخاتمة فهي آخر ما يعلق في آذان السامعين من كلام الخطيب، وكما اهتمَّ الخُطباء والنقاد بالمقدّمة، كذلك أعطوا للخاتمة اهتماماً مماثلاً، فقد أوصوا بضرورة تجويدها لأنها الأثر الأخير الذي سيبقى في نفوس المستمعين، وتتنوع الخاتمة على النحو التالي:

1 ـ أن تكون الخاتمة تلخيصاً للأفكار الواردة في الخطبة.

2 ـ أن تُختم الخطبة بآية قرآنية أو حديث نبوي شريف أو حكمة أو مثل سائر، أو أبيات شعرية تتلاءم مع موضوع الخطبة.

3 ـ أن يوجز ما سبق عرضه في الموضوع.

الخطابة في عصر النّبوة

تحديد المفهوم :

الخطبة من الخطاب، وهو الحديث، وهي الكلام المنثور المسجّع (10)، والأساس في الخطبة المشافهة حتى في عصر التدوين والكتابة.

والخطابة هي فن مُخاطبة الجماهير بغية إقناعهم عقلياً برأي معين، أو استمالتهم وجدانياً بفكرة معينة، ومن هنا صارت الخطابة هي فن الإقناع والإبداع.

عوامل رقيها وازدهارها:

توافرت للخطابة عدة عوامل أَدت إلى رُقيّها وازدهارها في عصر النبوة، يمكن حصرها في ما يلي:

ـ كانت الوسيلة الوحيدة لدعوة العرب إلى الدين الإسلامي الجديد، وإقناعهم به، وشرح مزاياه لجذب الناس إليه.

ـ اعتمد عليها الرسول مُحمّد (ص)، في دعوته لعشيرته الأقربين ودعوة أحياء العرب الأخرى.

ـ كانت أداة لتحميس المسلمين وحثهم على الجهاد في سبيل الله، والتحلي بالصبر حتى يحققوا النصر، وتعلو كلمة التوحيد .

وعليه: فقد كان ذلك كله داعياً إلى نهضة الخطابة، وباعثاً على رقيها وعلو شأنها.

نماذج من خُطب هذا العصر وتحليلها:

كان النبي مُحمّد (ص) ، الخطيب الأول في عصر صدر الإسلام، يلقي خطبه في المحافل والمساجد في ما بعد، وينشر من خلالها تعاليم عامّة للدين الإسلامي بأسلوب سهل لا غموض فيه.

النموذج الأول (الرائد لا يكذب أهله):

تطالعنا أول خطبة، وهي الخطبة التي استهل بها الرسول (ص)، دعوته، دعا فيها قومه قائلاً:

« إن الرائد لا يَكذِبُ أهله، والله لو كَذِبتُ الناس جميعاً ما كَذِبتُكم، ولو غررتُ الناس جميعاً ما غَررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إنيّ رسول الله إليكم خاصّة، وإلى الناس كافة، والله لتموتُنَّ كما تَنامون، وَلتبَعُثنَّ كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحساناً، وبالسوء سوءاً، وأنها لجنّة أبداً، أو النار أبداً » (11).

التحليل:

ـ نقف في هذه الخطبة على أمرين: الأول تأكيد الدعوة الإسلامية، والثاني: عرض بعض التعاليم الإسلامية.

ـ أكثر الرسول (ص)، من القسم بالله، فنراه يقول(ص): «.... والله، لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم ..»، ويقول أيضاً (ص): « والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصّة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون»، والهدف الأساس من القسم في الخطبة هو التأكيد على المعنى المراد توصيله للمتلقين.

ـ أداء المعنى بلغة موجزة، فالهدف من الخطبة هو التبليغ بدعوة جديدة ودين جديد، وقد راعى الرسول (ص)، حال المتلقين الذين صَدمهم أَمرُ هذا الدين الجديد.

ـ ظهر الإيقاع في الخطبة متمثلاً في السجع الذي ورد مُتآلفاً مع المعنى دون تعمد، فيقول الرسول(ص): « والله لو كذبت الناس جميعاً ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعاً ما غررتكم » ـ وقوله(ص): « والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون ».

وقد ورد الإيقاع في العبارات السابقة مؤكدًا بنون التوكيد ليوضح أن الموت والبعث أمر حتمي لا رجوع فيه، فيحدث ذلك أثره في المتلقي، ويستجيب للرسول الكريم (ص).

كما ظهرت المقابلة الفنية في قوله (ص): « والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون»، وهذا من شأنه التأكيد على الموت والبعث بعد الموت.

ـ وردت الألفاظ سهلة واضحة، وابتعدت عن كل غريب، ليسهل على المستمع إدراك المعنى بسهولة ويسر.

النموذج الثاني (في فتح مكّة):

النموذج الثاني أو الخطبة الثانية هي خطبة الرسول (ص)، يوم فتح مكة، حيث قال: « لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كُلَّ مَأثرة، أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سَدانة البيت وَسِقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا، فيهما الدية مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها، يا معشر قريش: إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم خُلِقَ من تراب، ثم تلا قوله تعالى: } يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (12) { يا أهل مكّة: ما ترون إني فاعل بكم ؟، قالوا : خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء » (13).

التحليل:

            ـ وجه الرسول (ص) خطبته إلى الناس كافة: إلى أهل مكّة، وإلى الجيش الذي رافقه في فتح مكة. وقد احتوت الخطبة على بعض التشريعات:

أولها: أن كل دم أو مال في الجاهلية مهدور لأنه نتاج للعصبية القبلية التي كانت سائدة آنذاك، ما عدا سدانة البيت وسقاية الحاج.

كما أكدّ الرسول (ص)، على أهمية التصالح بين القبائل وإفشاء السلام بينهم.

وثاني التشريعات: هو التشريع المتصل بالقتل الخطأ ففيه الدية تبلغ الأربعين من النوق ذوات المخاض.

ثم يؤكد الرسول الكريم (ص)، على مبدأ من مبادئ الإسلام الرفيعة، وهو المساواة بين الناس، والغرض من ذلك أن تتخلى قريش عن الكبر والزهو والعظمة، فكلنا من أصل واحد، ننتمي لآدم (ع)، وآدم خلق من تراب، ولا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله عز وجل.

ويختم الرسول (ص)، خطبته بما يدلُّ على سماحة الدين الإسلامي، عندما عفا عن جميع من حاربوه طوال أعوام الهجرة، سماحة لم يعهدها العرب في تاريخهم ومواقعهم الحربية.

ـ أما أسلوب الخطبة فجاء واضحاً، والألفاظ سلسة وكل لفظة تؤدي عملها في موقعها الملائم، فلا يضطر المتلقي إلى إعمال العقل لتفسير الألفاظ، ولإدراك المعنى.

ـ خلو الخطبة من السجع المتعمد، فلا نرى إلا سجعاً قليلاً في هذه الفقرات الثلاث التي وردت في مستهل الخطبة، والذي يتمثل في: « صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ».

ـ تراوحت جمل الخطبة بين الطول والقصر، فنراها تطول أحياناً وتقصر أحيانًا تبعاً للمعنى الذي ستؤديه، بما يحقق استيعاب المتلقي لما ورد في الخطبة.

ـ يدعم الرسول الكريم (ص)، فكرة مبدأ المساواة بين الناس بكلام الله عز وجل، فأورد آية من آيات الذكر الحكيم تؤكد معنى المساواة عند الله تعالى الذي لا يفرق بين عباده إلا بالتقوى، قال الله تعالى:} يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير{ (14)

ـ تكاد الخطبة تخلو من الصور البيانية، لعنايتها الأولى بالتشريع، فليس فيها إلا كناية في قوله: «ألا كُلَّ مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين »، كناية عن أنه مهدور.

ـ الاعتماد على الأسلوب الخبري، إذا كان الأمر متعلقًا بالتشريع كما في قول الرسول (ص): «ألا كُلَّ مأثرة أو دم أو مال يُدّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ مثل العمد بالسوط والعصا، وفيه الدية مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ».

وإلى جانب الأسلوب الخبري نلتقي ببعض الأساليب الإنشائية، مثل: «ما ترون أني فاعل بكم ؟ »، أسلوب استفهام، الغرض منه إثارة انتباه قريش إلى تخيل مصيرهم، وكذلك نجد الإنشاء في قوله: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وهو أسلوب أمر، الغرض منه إظهار العفو والتصريح به.

السمات الفنية العامة لخطب النبيّ (ص):

بظهور الإسلام طرأ على عصر صدر الإسلام تطور كبير، وكان هذا التطور سبباً أساسياً في تجديد الموضوعات الخطابية، بالإضافة إلى تطور الأسلوب الجمالي للخطابة، فقد أثر القرآن الكريم في الخطابة والخطباء فأضاف إليهم ثروة لغوية هائلة.

ومن خلال النموذجين السابقين وغيرهما من نماذج لخطب النبي محمد (ص)، نستطيع أن نُحدد الخصائص الفنية العامّة لخطبه (ص)، وهي كما يلي:

ـ تغير موضوع الخطبة حيث اتجه اتجاهات أخرى مغايرة لموضوعات الخطابة الجاهلية، فبينما نرى الخطيب الجاهلي يحضُّ غالبًا على الحرب والقتال، نرى النبي (ص)، يدعو إلى الخير في أغلب خطبه، ويبيّن الحلال والحرام للناس كافة، ويضع تعاليم الشرع التي تنظم العلاقات بين الناس.

ـ اتسم الأسلوب بالسهولة والبساطة والبعد عن الخيال، فعمد الرسول (ص)، إلى التعبير المباشر عن المعنى خاصة إذا كان المقام يستدعي ذلك. ففي خطبة الوداع يقول الرسول(ص)،: «إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات وواحد فرد، ذو القعدة، ذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان»(15)، فقد اقتضت المناسبة الابتعاد عن الأسلوب البلاغي.

ـ قلل الرسول (ص) من الأسجاع في خطبه، بعد أن كانت عماد الخطابة الجاهلية، فقد كانت ترد في خطبه دون تعمد، لتحدث أثرها في المستمعين.(16)

ـ استنَّ الرسول (ص)، سُنَّة جديدة في الخطب متمثلة في المقدّمات التي تستهل بها الخطب غالباً كالحمدلة (الحمد لله)، والصلاة والاستغفار والشكر، ونراه يستهلُّ خُطبة الوداع بقوله (ص): «الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهدِ الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله».(17)

 

ـ وقد كان الرسول (ص)، ينهي خطبه بعبارات أصبحت من تقاليد الخطبة الإسلامية، فيقول (ص)، في ختام خطبة الوداع:« والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» (18) .

الهوامش:

(1) مفكر وباحث إسلاميّ من جمهورية مصر العربيّة

(2) الجاحظ، البيان والتبيين، 1/241

(3) مصطفى الشكعة، الأدب في موكب الحضارة الإسلامية (النثر)، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ص 41

(4) إيليا حاوي، فن الخطابة وتطوره عند العرب، دار الثقافة، بيروت، ص 8

(5) المرجع السابق، ص 18

(6) إيليا حاوي، فن الخطابة وتطوره عند العرب، المرجع السابق ص 19

(7) أنظر: الجاحظ، البيان والتبيين، 2/ 6

(8) الجاحظ، البيان والتبيين، 1/116

(9) إيليا حاوي، فن الخطابة وتطوره عند العرب، ص 20

(10) ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثالث، مادة: خطب

(11) عز الدين بن أثير، الكامل في التاريخ، طبعة ليدن، 1866، 2/ 27

(12) سورة الحجرات: الآية 13

(13) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، 3/ 60 وما يليها

(14) سورة الحجرات: الآية 13

(15) الجاحظ، البيان والتبيين، 2/ 32

(16) يسري عبد الغني عبد الله ، دراسات في نثر عصر النّبوة،

القاهرة، 2014

(17) الجاحظ، البيان والتبيين، مرجع سابق، 2/31

 

(18) الجاحظ، البيان والتبيين، المرجع السابق، 2/33