أصابعه تُحسن إضمامة الأقلام فَتُحيلها أغمار قمح وتبر محمّد سعد الله شمص في »سواد وبياض«

06/09/2016
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

سأظلّ أكتب إلى أن يُورق حجر الصوّان

 مستشار التحرير د. عبد الحافظ شمص

تشدّني إلى الأديب والمؤلّف محمد سعد الله شمص وشائج قربى حميمة، وتجمعنا العلائق الأدبيّة والمنتديات الثقافيّة واتّحاد الكتّاب اللبنانييّن، وهو يمتلك، بتواضع جمّ، ثروة هائلة من اللغة والثّقافة وقدرة فائقة في التّعبير الأدبي...

اليوم، وبعد صدور كتابه السّابع «سواد وبياض» وكان سبقه في السّنوات الماضية (كلمات ـ حقول وسنابل ـ السلوك الإنساني الجديد ـ زهر البابونج ـ مأساة الذات الإنسانيّة ـ وبكل صراحة). رأيت أنّه من الواجب تقديم التّحيّة له والإضاءة على نتاجه القيّم الجديد الذي يتضمّن المعاني السّامية وكلّ ما يليق بالأدب والفلسفة وبناء الشّخصيّة.. هو قليل من كثير قدّمه المؤلّف ومنذ أكثر من عشرين عامًا، وقبل تقاعده بعد عمل طويل وشاقٍّ في حقل التربية والتدريس الثانوي والجامعي، والإشارة إلى بعض أوراقه المرهفات التي مرَّ قلمه الثريّ الملهم على صفحاتها الذّهبيّة فتألّقت وأخذت مكانها الصحيح في نفوس قرّائه الذين يجدون معه المزيد من المتعة الرّوحيّة والفائدة الأدبيّة.

محمّد شمص، أديب بقاعيّ، خرج على المألوف بكلّ معنى الكلمة وبرز، مُحطّمًا قيود بعض العادات والتّقاليد العشائريّة وكلّ ما يحول بينه وبين الإنطلاق الحر والإنعتاق من كلّ تبعيّة سياسية أو اجتماعيّة.. عاش حرّاَ لا مِنّةً لأحَدٍ عليه.. ومؤلّفاته التي برزت ولاقت الاستحسان والرّواج، التي تُظهر مدى عمق أفكاره ونزاهتها وتطوّرها الإنساني والعلمي والفلسفي، أدخلته قلوب الناس في معظم البقاع كما في المجامع الأدبيّة والثّقافيّة في لبنان.

يقول في إحدى صفحات الكتاب:

«إعمل على أن لا تُسْقِط ذاتك في مهاوي الطّمع فأثقاله تُحطّم مجذاف زورق أحلامك... واترك من غلال بيادرك قوتًا للطّير، وبذراً للحقل... وإذا جادت عليك الحياة بصوفٍ وَنَوْلٍ، وعلّمتكَ فنّ الحياكة فانسج ثوباً لمن يلفحه البرد... وَعَلِّم غيرك كيف ترقص الأنامل فوق الأوتار، لأنّ الأيدي الواهنة لا تخدم الحياة.. وما من قلب ميّت يضخّ دماً، وما من لحنٍ لقيثارة مُحطّمة... لا تدع مخاوفك من أسرار الكون تُثبط عزيمتك وتُزعزع إيمانك بالحقيقة المطلقة... وإذا هَرَب الفجر من ظلام الليل، ابتعد عن الأخطاء التي تحول دون وصولك إلى الحكمة والمعرفة... لا تقتنع بمجدٍ فارغ ولا تُقنع نفسك بأحلام واهية وانشد الكمال لكي تصل إلى الحقيقة.. افتح أبواب صدرك للمحبّة فهي التي تُهذّب نفسك وأفكارك وَتَرشّ فوق جبينك ماء حياءٍ ووقار... من زهورها ينتشر عبير الرّوح، ومن غلال بيادرها يقتات أبناء الحياة وهي ليست رغبة أو شهوة تطلبها ذاتٌ من جسد، بل هي نورٌ يشعّ فوق كلّ قلب، وجسرٌ نعبره لنصل إلى الإنسانيّة بمعانيها الفلسفيّة».

الفلسفة التي هي علم القوانين العامّة للوجود، أي الطبيعة والوجود والتّفكير الإنساني في عمليّة المعرفة، وشكل من أشكال الوعي الإجتماعي الذي هو أعلى أشكال انعكاس الواقع الموضوعي الكامن في الإنسان وحده، وهو الوعي المجمل الكلّي للعمليّات العقليّة التي تشترك إيجابيًّا في فهم الإنسان للعالم الموضوعي ولوجوده الشخصي.

والفلسفة، استطراداً، تتحدّد في النّهاية بعلاقات المجتمع... وتبقى المشكلة الرئيسة في الفلسفة، باعتبارها عِلْمًا خاصاً، هي علاقة الفكر بالوجود والوعي بالمادّة... وكان «فيثاغورس» أوّل من استخدم مصطلح فلسفة... وأفلاطون أيضاً اعتبرها عِلْماً خاصاً. وهو ما كان طبيعيّاً إذا ما وضعنا في الإعتبار المستوى المنخفض للمعرفة في تلك المرحلة الأولى من التّاريخ الإنساني...

وعندما تطوّر الإنتاج الإجتماعي، وتراكمت المعرفة العلميّة، تفرّغت العلوم في الفلسفة لكنّها تميّزت كعلم مستقل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمقولات التفكير والوجود... وقد تمّ استخدام مقولة الفكر في تاريخ الفلسفة بمعانٍ مختلفة... وعندما ينظر إلى فكرة ما على أنّها توجد في الذّهن فحسب، فإنّها تشير إلى، أولاً: صورة حسّيّة تنشأ في الذّهن كانعكاس لمواضيع مُهمّة. وثانياً، معنى الوجود أو جوهر الوجود، وهي أشياء يمكن ردّها إلى إحساسات أو انطباعات الذّات أو إلى المبدأ الخلاّق الذي يعطي للعالم وجوداً.

وأديبنا محمد سعد الله شمص، بجديده «سواد وبياض» استطاع كسب ثقة قرّائه، كصاحب قلم متوثّب تأَنّى على أناقة المعرفة، ونَثَرَ على البياض من قلبه النّاصع ما شاء من تجلّيات تضفي على الكلمات المجنّحة سلام المحبّة وشفافيّة الزّمن الجميل، وأَطلّ عليهم من ألم المتألّم على هذه الأرض حتّى ينتصر الحقّ...

وقد برزت أعماله في صورتها النّضرة والمتكاملة التي تدل على المهارة في التقاط سرّ الأشياء، والبراعة في اختيار الملائم لحياة كلّ فردٍ من أفراد المجتمع اللبناني عامّة والبقاعي خاصّة وإظهار ما يكتنزه هذا السّرّ في خزائن اللغة ويجسده ببلاغة الصدق في التعبير عن شؤون الحياة وشجونها.

والمؤلّف، يارعاه الله، لم يبرح موقعه الثابت القائم أساساً على المستوى الجيّد وعلى الموقف الشجاع، باعتباره يمتلك ثروة أدبيّة وعلميّة، لغة وثقافة وَقُدرة فائقة على قيادة القول، بالمنطق الجيّد والشجاع نحو الاتجاه الصحيح والمثمر...

كَتَبَ مُقدّمة الكتاب، الصّديق الأديب الدّكتور غازي قيس الذي أَنعم النظر بما حواه من شرح وتفصيل، وأَفاض في مقدّمته بما يملك من إحساس مرهف وبلاغة متميّزة، مُبدياً ثقته التّامّة بقدرة المؤلف على استنباط الأشياء بصورها التي تؤدي إلى المعرفة... وجاء في المقدّمة:

«محمد شمص كاتب، عَفَّر يديه بتراب السّهل الأخضر حتّى كاد عبيره ينتشر من بين أصابعه التي تحسن إضمامة الأقلام فتحيلها أغمار قمح وتبر... أديبٌ شفّاف مثل قميص الفجر، وصاحب قلم ماسيّ تمتصّ حروفه أطياف الشّمس وتخلعها وشاحاً على الكلمات التي تتحوّل على يديه عرائس بحر على مراتب زفاف... وهو صاحب قلب نقيّ، ينبت على أغصان عمرنا اليابس ورقاً أخضر، يعدنا بالزّهر والثّمر والظلال النّاعمة والوارفة...»

ويخاطبه غازي قيس بشكل مباشر وبقلم ينبض بالحياة والشفافية المنتقاة، فيضيف:

«يا صاحب هذا القلم الرصين المبدع، زِدْنا من عطر حبرك، عَلَّنا نبلغ نشوة عبيره المنتشر بين الحروف من أنفاسك الطّيّبة، ونحن في زمنٍ تتهاوى فيه صروح الإبداع، ليسود الجهل والجشع والتّعصّب.. سَلِمَتْ يداكَ وسَلِمَ هذا القلم الذي لم يسكب إلاّ الرّوائع».

وجاء في الصفحة 15 من الكتاب «سواد وبياض» الصادر عن حركة الريف الثقافيّة، وتحت عنوان «لماذا أكتب؟»:

«سألوني يوماً لماذا تكتب وَعَمَّن تكتب؟ فقلتُ: سأظلّ أكتب إلى أَن يُورق حجر الصّوّان، وعن مآسي الذّات وأخطاء البشر وجوع الفقير وعن عذاب كلّ مظلوم في هذا العالم، وسأستعير من خبرات أقلام أَهل الفكر، حكمة تفكّ الحصار عن العقول وتملأُ خُواءَها.

سأكتب عن الشرفاء من الناس في هذا العالم الذين يعملون في سبيل الحقّ والصواب والخير والجمال، وقد يتّعظ مَنْ بَهَرَتهُ الحياة ببريقها وجرّته إلى الخطيئة».

وقف السّواد أمام البياض مرّة وقال له:

جئتك اليوم مُعتذراً... فالغيرة كانت تدفعني لرمي القمامة أمام بابك وتلطيخ ثوبك النّاصع... ابتسم البياض وتقدّم نحوه وقبّله، وقال لهوالله ما تعرّفت إلى نفسي إلاّ بالقرب منك، وما زيّن بياض عينٍ إلاّ سوادُ حدقة...»

عندما ينطق اليراع، ينام الخيال فوق سواعد الجمال وتمشي الأفكار عارية في مِساحة الأحلام، ويسعد الصّمت في مجالس الكلام وتبتسم المحبّة للحقد ويُعانق الجمال صُوَر آلهة الجمال.

وفي مملكة البيان يُلبّي المستحيل نداء المعقول فيجمع «المندل» ملوك الجان في فنجان، وفي ساحات الرّقص تتمسّك الجنّيّات بحبالٍ جَدَلَتها أصابع البخور وعيدان المسك والزعفران. هذه السّنابل وهذه الأزاهير الملوّنة بأَلوان الفصول، ناهضة، ثابتة من منابت الأمل والأَلم... فضاؤها المدى الأرحب، برحابة الحلم والحق والجمال.. فلا بدَّ إذاً أن تستضيء بصائرُنا بمناهل الحكمة المشرقة لنتلافى الوقوع في المهاوي المتوارية في حنايا الأَقبية وفي مجاهل الحياة.

كلمات من القلب، نداءات حبّ ترفع أشرعة الخيال بنبضٍ خافقٍ يُضفي على الوجود رَوْنَقًا وحياة، وتُراقص حروف القول في مجامع الأُنس، ونغمات تحرّك نبضات القلب في كلّ نفس.

وأخيراً، فقد قرأْتُ كلّ صفحات الكتاب الجديد وما جادت به نفس مؤلّفه التّوّاقة، وجدتُ فيها كلّ نفيس وما يهمّ القارئ بأُسلوب سهل المأخذ جمّ الفوائد مملوء بالمباحث العلميّة والأدبيّة والأخلاقيّة، تكشف عن مؤثّرات رائدة، وعن سعة اطّلاع وخبرة وموهبة فذّة وعلم غزير.

ولهذا فإنّي أعتقد، بل أَجزم أَنّه، أَي الكتاب، سيجد الرّواج والإقبال لدى من يبحثون عن الفائدة والجمال في كلماتٍ، يصوغها بعناية فائقة عالمٌ موسوعيّ لبنانيّ رائد...

 

وهذا قليل من كثير، أضعه، وبثقة تامّة أمام قرّاء أَعزّاء، كما أرادها الكاتب ليكون الجميع على علمٍ وثقة بحكاية وتفاصيل مواد كتابه الجديد في جميع وجوهها الموزّعة شعاعاً وأَحلاماً على منابت القول والفعل، استكمالاً لدوره الرّائد في إشاعة الفرح والسّعادة...