غريبة هي الدنيا أُمي

15/11/2018
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم المربية أماريا برادعي سليم

لا أنسى تلك المرأة التي جاوزت الثمانين بسنين، تجرُّ رجليها بضعفٍ، وصوتها الذي طرق أُذنيّ فأدمع عينيّ وهو يردد في استعطاف ورجاء « الله يرضى عليك » ماذا حدث في ذلك اليوم لا أعلم، لكن شيئاً ما استيقظ فجأةً وكأن صوتها الضعيف الحزين أيقظ في داخلي كُلَّ مشاعر الإنسانية، أحسست بأنها أُمي، وأني أخافها في نفس الوقت، وأني أريد ألا يكون الموقف قد حدث أصلاً، فقد أدركت وقتها بكل مشاعر الحدس الإنساني أنني تعلّمت من جُملة واحدة مفاهيم الحقِّ والباطل والصواب والخطأ والظلم والعدل كلها ومن كلمة عجوز مسكينة ومظلومة.

جلست قربها أحاول التكلم معها، فنظرت إليّ بعينين دامعتين واستهلّت قصتها قائلة: انا أم لولد واحد علمته وربّيته على المبادىء والأخلاق ونزفت بدل الدموع دماً لأراه أمامي قد حقق النجاح والتفوق. وتزوج بعدها بفتاة قد تعرَّف إليها في عمله وسعيت جاهدة للاهتمام بهما إلى أن جاء اليوم الذي قررت أن تبعدني عن إبني والمنزل فصرت ألزم غُرفتي ولا أخرج منها أبداً، ومع هذا كله بدأت تحكي لابني بأنها لا تطيق وجودي معها ومن الأفضل أن يرمي بي خارج المنزل لأنها تريد العيش باستقلالية وهذا من حقّها.

في بادىء الأمر تذّمر من كلامها وبدأ يواجهها بكلمات تسكتها ولكنها بقيت على رأيها تُصِرُّ على طردي وتظل تبكي ليرق قلبه لها وينسى أمه التي نسيت نفسها من أجله.

وجاء اليوم الموعود ودخل ابني ليلاً إلى غرفتي يحاول الكلام لعدة مرات، فقطعت حبل أفكاره الذي يروح ويجيء وقلت لا عليك يا بُني سأتدبر أمري، فتشجع قائلاً: «الآن يا أُمي لأن زوجتي ستغادر المنزل في حال بقائك هنا ».

حبست دموعي وَجهَّزت نفسي للرحيل وصرت أُفكر إلى أين المفر وأي مكان سأذهب إليه في مُنتصف الليل وكيف سأعيش.

جلست الليل بكامله في مدخل العمارة مختبئة من عيون الناس لكي لا يتكلّموا عن ابني بسوء أو ينظروا إليه نظرة احتقار.

كنت منذ ذلك الوقت أَتنقل من عمارة إلى أخرى أبحث عن فُتات الخبز المرمي في الطرقات.

كُلُّ هذا لم يُضايقني مُطلقاً لأنني حاولت أن أفهمه، ولكن اليوم التقيته أمامي، اقتربت منه وحاولت معانقته وتقبيله فنظر إلي نظرة غريب لمتسولة في الشارع وابتعد عني كأنه لا يعرفني؟؟. فركضت وراءه أحاول الكلام معه إلى أن وصلت معه إلى باب المنزل وعندما رأت زوجته ما رأت ظناً منها أنه هو من أحضرني نادماً على ما فعل، أدخلها أمامه وأغلق الباب...!!.

وقفْت هنيهة أُعيد ما حصل معي وعن الظلم الذي حلّ بي وبقيت مُنتظرة طويلاً أفكر وأفكر إلى أن فتح الباب وخرجا معاً في سهرة أو عشاء أو زيارة.

لملمت أغراضي البالية وذهبت من حيث أتيت أحاول أن أعيش باقي حياتي مُشرَّدة ليس هناك من يسأل عني أو من يُعينني أو من يواسيني.

سكتت المرأة وظلت تبكي وتمسح الدموع عن عينيها وتحاول إخفاء ضعفها ونكبتها بولدها!!. أمسكت يدها وأخذتها إلى غُرفتي فوق سطح العمارة وحاولت جاهدة أن أعيدها إلى منزل ابنها، لكنه رفض رفضاً قاطعاً وفي كل مرة يقول أن أمه ماتت ولم يعد يريد أن يتذكرها وهو سعيد في حياته بعيداً عن المشاكل والضغوطات.

احتضنت تلك المرأة واعتبرتها أُمي التي خسرتها ولم أتعرف عليها منذ طفولتي، وأَحسستُ حينها أَنني خُلقت من جديد مع أم هي كُلُّ الدُّنيا وحاولت أن أُعوضها عن كٌلِّ شيء خسرته وبادرتني بالحب والحنان والعطف والسكينة.