حق المرأة واجب
بقلم المربية الحاجة نمرة حيدر أحمد (أم مصطفى)
إنها واحدة من اللواتي استوحيت منهن دروساً للحياة، وعلمتني من دون ان تدري كيف يجب نشر الوعي لدى الأهل عن معنى أن يكونوا مسؤولين عن مستقبل بناتهن، وفي عقول البنات حول كيفية الحفاظ على حقوقهن التي منحهن إياها الله عزّ وجل من غير خوف أو وجل من عادات وتقاليد لا تأخذ من الدين إلا ما يحفظ موقعيّة الرجل وسلطته.
إنّ من يسمع قصة سماح التي لم تنته بعد لأكتب نهايتها يدرك تمامًا لما أردت نشر قصة هذه المرأة التي ربطتني بها علاقة مودة واحترام منذ زمن بعيد.
سماح إمرأة كغيرها من النساء اللواتي جاهدن في هذه الحياة حتى وصلن إلى مرحلة فقدان صمام الصبر الذي كان يشكل إطار تماسك أسرهن ظاهرياً. أجل لقد نفذ صبرها بعد عشرين عاماً من تحمّل التعنيف الجسدي والنفسي من رجل اختارته في يوم من الأيام ليكون رفيق درب و سند، تتكىء عليه كلما أوجعتها الأيام.
عرفتها بحكم عملي منذ خمس عشرة سنة ومن ذلك الوقت وأنا محط ثقتها، وخزين أسرارها، وبلسم وجعها ، أحاول التخفيف عنها، ومساعدتها على الاستمرار في إدارة حياتها بما يرضي الله ويضمن لأولادها حياة كريمة.
هي أم لخمسة أولاد معظمهم اليوم من حملة الشهادات. استطاعت أن تصل بهم إلى برّ الأمان بصبرها على قساوة زوجها وتهوّره، فبعد أن كان ذا ثروة تعينه على تأمين حياة كريمة لأسرته، وتؤمّنه من العوز وغدر الزمن، أصبح لا يملك سوى راتبه التقاعدي والبيت الذي يسكنه مع غرفتين يستفيد من تأجيرهما، وكلّ ذلك نتيجة عمله في البورصة التي غزت حياته حتى انعكس تقلّبها على أعصابه وتصرفاته مع زوجته و أولاده.
منذ أكثر من عشر سنوات وسماح تعيش مع زوجها تحت سقف واحد، و لكن حياة منفصلة فيها من الكآبة والتعنيف ما جعلها تتمنى الموت على هكذا حياة. استطاعت اقناعه بصعوبة بأن تعمل لتحسين معيشة أبنائها ولسد بعضٍ من خسارته التي أثّرت على حياتهم وزادته تقتيراً عليهم.
كبر الأبناء بعد جهد واستمدت سماح من عملها قوة تواجه بها الذل والمهانة، وأصبح لها كيانها الخاص. وصارت قادرة على إعالة نفسها، طلبت الطلاق بعد أن طفح الكيل منه، وبعد أن اطمأنّت على قدرة أولادها على إدارة حياتهم بأنفسهم بعيدًا عنها لأنه هدّدهم بالطرد وحرمانهم من التعليم، وبيع البيت في حال تركوا المنزل.
بعد جهد ومعاناة حصلت على ورقة خلاصها التي كان ثمنها أن تتنازل عن كلّ حقوقها وتترك المنزل، لم يكن امامها إلا أن تلجأ إلى أخويها ولكن المفاجأة كانت أنهم رفضوا استقبالها بحجة عدم قبولهم فكرة الطلاق وبأنها باتت عارًا عليهم.
لم تيأس واستطاعت بمساعدة بعض رفيقاتها في العمل أن تستأجر بيتًا وتفرشه، وتعود إلى الحياة وكأنها ولدت من جديد، لقد قررت أن تنسى الماضي بمآسيه وتنطلق لترمّم نفسها المنكسرة، وشخصيتها المدمّرة.
مرّ ثلاثة أشهرعلى طلاقها بدأت تعتاد على حياتها الجديدة، وما زاد من ارتياحها زيارة أبنائها لها باستمرار بعد أن أقنعوه بذلك . ولكن الغريب في الامر، والشيء المضحك، أنّه أوهم أولاده وإخوتها بأنه مظلوم وهو لا يريد التخلي عنها وهي أجبرته على ذلك ، وطلب منهم اقناعها بالعودة عن قرارها وإلا سيقضي على حياته وسيتحملون معها مسؤولية ذلك.
استطاع الابناء أن يتغلبوا بإصرارهم على وجع والدتهم ويجعلوها تتراجع عن قرارها لاسيما بعد ان جاء والدهم بنفسه يطلب منها السماح والعفو عنه، ويتمنى عليها العودة إلى بيتها، وتعهّد لها بقبول أي شرط تطلبه كما وعدها بتغيير معاملته ونمط حياته الى جانب جعلها وكيلة نفسها في الطلاق وتسجيل المنزل باسمها، لم تقتنع سماح بكلامه، فمن تجرع كأس العلقم مرّة لن يحاول تجرّعه مرة ثانية، ولكن كي لا تنقلب الأمور ضدّها وتتحمل مسؤولية تشتت أسرتها أمام أبنائها، ولكي تكّم أفواه الناس التي راحت تتناولها بالسوء، قبلت العودة الى الدائرة التي ضاقت عليها وكادت تخنق رغبتها في الحياة.
لم يخب ظنّها، والعلقم لن يتحول إلى عسل بين ليلة وضحاها، فمن كان طبعه القسوة والانانية لن يصبح عطوفًا وكريمًا فجأة، إذ لم يدم ما تعهد به أمامها سوى أيام وعاد الى سيرته الأولى، عدم إحترام وإهمال لأبسط الأمور التي ترغب أن تجدها المرأة في زوجها، لم يحاول أن يكسر حاجز النفور في نفسها الذي بناه بتصرفاته الرّعناء. لم تعد قادرة على الانسجام مع من أهانها وحرمها في يوم من الأيام أبسط حقوقها، وحجب كرمه وحنانه عن أبنائه ليعيش في دائرة كيفه ورضى نفسه.
عادت إلى سجنها الذي هربت منه، لترضي أبناءها وإخوتها، لقد عادت كيلا تصبح محور حديث جيرانها ومعارفها، رجعت لتُدْفَن من جديد بالرّغم من أنّها وكيلة نفسها بالطلاق، والبيت بات ملكها، سماح التي استعادت قوتها لفترة، ماتت ليحيا آخرون.
كان يؤلمني مصابها، فكم حاولت أن أخفّف عنها، وأنصحها بالصّبر على وضعها، والتعامل بحكمة مع كلّ المواقف التي تمرّ بها مع أسرتها، وتركيز جلّ اهتمامها على عملها وعلى تغيير نمط حياتها لتتخلص من وَقْع أعماله المستفزة والقاسية. ولكن هذه المرة لم أعد راغبة بإسدائها النصيحة، فقد اكتفيت بالاستماع إليها والنظر في عينيها الدامعتين، وكلماتها التي تدل على فقدانها لكل شعور جميل بالحياة ،وعلى عدم التوازن في تصرفاتها وأقوالها.
إنه يهدّدها ويضغط عليها لتعيد إليه كل ما تنازل عنه عندما طلب منها العودة، وإلا لن ترى ما يرضيها، كلّ ذلك بعيدًا عن عيون وسمع أبنائها، فهو لا يريهم إلا الجانب الحنون الذّي يوحي لهم بأنه تغير، وأصبح لطيفًا معها وهي التي ترفضه وتنغص عليهم عيشهم.
سألتني:«كيف عليّ أن أتصرف مع هكذا انسان؟ انصحيني؟ باستطاعتي أن أرميه في غياهب السجن، وأن أحرمه من كل شيء، ولكن الثمن سيكون باهظاً، نظرة أبنائي لي، المجتمع، أهلي، سمعتي، هل خلقت المرأة للعذاب ؟. انا لا استطيع اليوم أن أحارب بيدين مكبّلتين، وقلب كسير! ألا من خلاص؟» الخيارات أمامها متعددة وجميعها قاس ومرّ، لقد أشترك الجميع في رسم مسار حياتها إلا هي.
عرض قصة سماح التي لم تنته فصولها بعد، هدفه تسليط الضوء على مدى هضم مجتمعنا لحقوق المرأة ... وحقّها في حياة كريمة بعيدة عن التعنيف الجسدي والنفسي... حقّها في أن تقرّر مصيرها من دون تهديد لحياتها ... حقّها في أن تعيش حرّة ضمن ضوابط الدين .... كما يلفت النظر إلى غياب دور الأهل أحيانًا في احتضانها ورعايتها وحمايتها حتى بعد زواجها، وعدم احترامهم لخياراتها بحجة الأعراف والتقاليد.