تربية وتعليم - إلى متى ؟

18/5/2017
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم المربية الحاجة نمرة حيدر أحمد (أم مصطفى)

كنت في سيّارة أجرة عندما ركبت إلى جانبي امرأة لم تتجاوز العقد الثاني من عمرها ومعها طفلها الّذي مازال دون الثّانية من عمره . أجلست الطّفل بيني وبينها وأعطته قطعة حلوى مغمسة بالشوكولا لتشغله عنها، وانصرفت هي إلى هاتفها المحمول لتتفاعل مع تغريداته بحركات يديها الّتي تتراقص على أزراره، وبتعابير وجهها التي تحاكي بانبساطها وانقباضها مضمون الرسائل التي كانت تصلها، كلّ ذلك وطفلها يخطّ بيديه المتسختين اشكالاً وألوانًا على مقاعد السّيّارة وعلى ملابسها من دون أن تشعر.

كنت أمسكه بين الفينة والفينة ليبعد يديه الصّغيرتين المتسختين عنّي ولكن من دون جدوى، لفتُّ نظر والدته لتمسكه وتمسح له يديه، فما كان منها إلاّ أن أمسكته بقوّة وعصبيّة ووضعته أمامها، حاصرته بركبتيها وعادت لتكمل مراسلاتها، راح الطّفل يتململ ويحاول التّفلّت من الحصار، وعندما لم ينجح بذلك عضّها في ركبتها فتوجّعت، صفعته على خدّه صفعة قويّة انطبعت احمراراً على خدّه، صرخ الطفل بقوة وراح يضربها بيديه الصّغيرتين معبراً عن ألمه وانزعاجه، كلّ ذلك والسائق ينظر اليها خلسة من خلال المرآة الأماميّة وحركة رأسه تعبّر عن امتعاضه من دون كلام، ولكن فاته أن يرى ما حصل لمقاعد سيارته الجديدة من تشوهات.

استمر صراخ الطفل وازداد حدّة، أخذت حقيبة يدها بانفعال وأخرجت منها حبّة حلوى صغيرة، نزعت غلافها، ومدّت يدها لتضعها في فم طفلها، اندفعت بعفوية وأمسكت يدها قائلة:

 لا تعطه هذه الحبّة، ستخنقه إن ابتلعها  فسحبت يدها من يدي وقالت بانزعاج: إنّه معتاد عليها لا خوف عليه  ومن ثمّ أعطته حبّة الحلوى وأعادت ظهرها إلى الوراء لترتاح وتكمل مراسلاتها. انزعجتُ من تصرّفها ولكن استأتُ أكثر من تسرّعي ومن تدخّلي بما لا يعنيني، ولكن هكذا أنا في صراع دائم مع مشاعري الّتي تتسلل خفيّة لتنطق لساني بموقفي من دون تفكير بالعواقب،لا بأس المكان الذي أقصده بات قريباً.

وأنا غارقة في معاتبة نفسي سمعت صوت حشرجة، نظرت إلى الطّفل فرأيته يكاد يختنق، هززتُ والدته الغارقة في عالمها لتلتفت إليه، فما إن رأتْه حتّى راحت تصرخ وتقول:  أرجوكم ولدي يختنق ساعدوني . تلاشى الطّفل بين يديها وبدأ لونه يميل للزّرقة، جحظت عيناه وبدا كأنه فارق الحياة، نظر الرّاكب الّذي يجلس بجانب السّائق إلى الوراء، فصرخ بالسّائق أوقف السّيّارة حالاً ، أوقفها، ارتبك السّائق، حاول أن يخرج من خط السّرعة ليركن السّيارة ولكن حركة الرّجل في فتح الباب كانت أسرع، مما اضطرّ السّائق للوقوف وسط الشارع ووراءه أبواق السّيارات تزعق لتصمّ الآذن.

فتح الرّجل الباب الخلفي بسرعة، انتزع الطّفل من بين يدي والدته وقلبَهُ رأساً على عقب وراح يضربه بقوّة بين كتفيه، نزلت حبّة الحلوى التي كانت عالقة في مجرى الهواء فصرخ الطفل، رفعه وحمله بين يديه وضمه إلى صدره وهو يرتجف من الخوف، صراخ المرأة دفع بسائقي السيارات وبالركاب والمارة إلى التّجمهر حولها، تطايرت التساؤلات بينهم وجالت وصالت لمعرفة ما حصل.

حمداً لله أنْقِذَ الطّفل وهدأت المرأة، ركن السّائق سيّارته جانباً افساحاً بالمجال أمام مرور السّيارات. سألها السّائق عن مكان سكنها ليوصلها إليه وعن زوجها ليتصل به لكنّها رفضت وقالت له: لا، لا أريد، كل ذلك بسببه، سأقصد بيت خالي وهو قريب شكراً لك  عادت إلى السّيارة، أخذت حقيبتها واندفعت مسرعة وكأنّ ذنبها يلاحقها.

عدْتُ إلى مقعدي في السّيّارة ولكن قدميّ عاجزتان عن حملي، وخفقان قلبي لم يهدأ بعد، نظر إليّ السّائق من خلال المرآة فرثى لحالي وسألني إن كنت أريد ماء فشكرتُ لطفه، قال لي: سمعتُ ما دار بينكما، لو أخذَتْ بنصيحتك لتجنبت هذه الحادثة الّتي كادت أن تودي بحياة ولدها ولكنّها ما زالت دون سن النّضج. لم أردّ على كلامه لأنّه لم يكن باستطاعتي الرّد. وصلت إلى حيث أريد دفعت الأجرة وترجّلت من السّيارة قاصدة مركز عملي.

 

هذه الحادثة الّتي أرعبتني وهزّت مشاعري جعلتني أفكر وأقول في نفسي، من المسؤول عمّا حصل لهذا الطّفل؟ أهذه الأم الطائشة غير المسؤولة هي السبب؟ أم الأهل الّذين زوجوها من دون أن يرسموا لها معالم طريق المستقبل ويحصّنوها بالسّلاح الّذي يؤهلها لتكون زوجة صالحة، وأماً قادرة على رعاية أبنائها وحمايتهم، وتزويدهم بما يحتاجونه من قيم ومعارف تؤهلهم للحياة.

فلنفرض أنّ الأهل قاصرون عن القيام بهذا الدّور التّربوي، التّوعوي فأين المدارس من ذلك؟ إنّ الفتاة تقضي ما يقارب ثلاث عشرة سنة من عمرها على مقاعد الدّراسة تنهل من شتّى العلوم، وعندما تخرج لمعترك الحياة تجدها شبه جاهلة بقوانين مجتمعنا وبأسرار النّجاح للإنخراط فيه من دون عثرات ومواقف موجعة ومؤلمة. فمدارسنا باتت كالمعلم الذي يعطي الفتاة صنارة العلم ويتركها على الشاطئ من دون تجربة وتدريب لاستثمار هذا العلم في خوض يمّ الحياة ببراعة وحكمة.

فترى الفتاة في مجتمعنا تنتقل من على مقاعد الدّراسة ومن مجتمع أسرتها الضّيق ومن محيطها الصّغير ومن عالم أحلامها الوردية المليء بالسّعادة والحب، لتصبح بين ليلة وضحاها زوجة وأمّاً عليها أن تواجه المجتمع الأكبر وصعوبات الحياة ومساربها المختلفة من دون وعي ونضج وتأهيل نفسي، لذا تجدها عند أول عثرة في حياتها تلجأ للآخرين لتجاوزها وترى الأمور من منظارهم لانّها ما زالت تجهل لعبة الحياة ومعنى الشّراكة فيها ومن هنا تبدأ المشكلة ويكبر الشّرخ في الأسرة.

أين إعلامنا من برامج توعيّة هادفة تعرّف الفتاة إلى دورها المهم في المجتمع وتطلعها على مستلزمات الحياة الأسريّة والاجتماعيّة؟ كما نجد محطّات خاصة بالطّبخ والسّياسة والسّياحة... لِمَ لا نرى محطات خاصّة بشؤون المرأة فقط.

يكفينا برامج سياسيّة تغذي النعرات الطّائفيّة وتبثّ السّم في الدّسم، يكفينا برامج تحمل شعار التّوعية الاجتماعيّة ولكنّها في الواقع تعمم الصّورة السّلبية لمجتمعنا، وتجهد لنقل تشوهاته بصور مخزيّة فيها من الجرأة ما يسيء إلى الذوق العام وإلى أفكار شبابنا وفتياتنا.

فلنَرتقِ ببرامجنا إلى المستوى الّذي يبني العقول ويحصّن النّفوس. وليكن لدينا برامج ومسلسلات توجيهيّة في اطار ترفيهي محبّب تعبّر عن قيم تكاد تضيع في ظل عولمة فارغة لم تحمل لنا في طياتها إلا الفساد والبعد عن الدّين والاخلاق والقيم.

إنّ مشكلة هذه المرأة ليست مشكلة امرأة حرفتها موجة التّكنولوجيا عن دورها كأم، وإنما هي مشكلة مجتمع بأكمله، مشكلة مدارس انشغلت بالقشور عن الجوهر، مشكلة دولة تركت إعلامها ليكون بوقاً لتغذية ما يشرذم لا ما يجمع ويبني.

إلى متى سنبقى نعيش دورالضّحية؟ إلى متى سنبقى نعيش في دائرة الصّمت القاتل؟ إلى متى سنبقي فيروس الجهل يتآكلنا من دون أن نواجه ونعي ونفهم؟ إلى متى سنسير وراء كلّ جديد من دون حصانة وحكمة؟ إلى متى.....؟