تربية وتوجيه- المراهقة والممارسة التّربويّة
بقلم الأستاذ داود اسماعيل حماده
ـ من المفيد للمراهق بشكل خاص، وللأسرة بشكل عام، وللمجتمع بشكل أعم، أن نتعرّف إلى مشاكل المراهقة وإمكاناتها، لنتمكّن من معالجة هذه المشاكل ومن استغلال هذه الإمكانيّات لصالح المراهق وفي خدمة المجتمع.
ـ وقبل أن نُحدّد الأساليب التّربويّة التي يجب أن نتَّبعها مع المراهقين والمساعدات التي علينا أن نقدّمها لهم؛ أرى من الضّروري أن نُلقي نظرة سريعة على فترة المراهقة، نستعرض من خلالها أهم مواصفاتها السّلبيّة والإيجابيّة، ضمن العناوين الهادفة التّالية:
1ـ تعريف المراهقة وتحديد فترتها الزّمنيّة.
2ـ أهميّة المراهقة في عمر الإنسان ومراعاة هذه الأهميّة.
3ـ كيف يتم التّعامل مع المشاكل للتّوصل إلى إستغلال الإمكانات؟
4ـ كيف نساعد المراهقين من النّواحي الجسديّة والعقليّة والإجتماعيّة والإنفعاليّة؟
5ـ تقويم عام
أولاً: تعريف المراهقة
وتحديد فترتها الزمنيّة:
تبدأ فترة المراهقة الزمنيّة عادةً بين سن الثالثة عشرة أو الرّابعة عشرة من العمر، كما يقول الدكتور توما الخوري في كتابه علم النفس التّربويّ ، ولكن سن هذه الفترة قد يختلف بين فردٍ وآخر. وهي فترة نمو مفاجئ في كل مستويات الشّخصيّة (نمو جسدي وعقلي وروحي وانفعالي). هي مرحلة الإنسلاخ من عالم الطفولة والدّخول في عالم الشباب الذي ما زال يتحفّظ في قبولهم فيه. هي مرحلة الإنتقال من تجسيد الأمور عبر الحواس إلى مرحلة التّجريد ـ هي مرحلة إستخراج الأنا من الآخر والإنتقال من التقليد له إلى مخالفته، ومن الإحتماء به إلى السيّطرة عليه ـ إذاً، هي فترة نمو للشّخصيّة وسط أزمات حادّة وتناقضات عنيفة ـ هي انقلاب عام على كل المفاهيم السابقة وإعادة تنظيم للسّلوك كما يقول فالون ، وليس عمليّة تراكم بنائي كما يقول بياجيه العالم النفسي والفيلسوف والمنطقي السويسري المتوفى سنة 1896م..
ثانياً: أهميّة المراهقة في عمر الإنسان
ومراعاة هذه الأهميّة:
إذا كان الرّبيع فتى الطبيعة ودفق حرارتها وبعث حيويتها وباعث خصوبتها؛ فالمراهقة ربيع الحياة، فيها تُبعث الآمال وتُزهر الأحلام ويولد الطّموح؛ وفي نشوة هذه الآمال وإستغراق هذه الأحلام يتقرّر مصير الإنسان وتُحفر حدود شخصيته.
إذاً، المراهقة في نموّها المفاجئ على جميع الأصعدة الجسديّة والعقليّة والرّوحيّة والإجتماعيّة ليست قفزةً في الهواء بل زحمة معطيات وزخمة إمكانيات، ولكن ما ينقص أصحابها هو الخبرة الكافيّة لتنظيم هذه القدرات ووضعها في مكانها المناسب.
ومن هنا تنشأ خطورة هذه المرحلة وحساسيّة هذه الفترة، فتكثر افتراضاتها وتتعدّد احتمالاتها ـ إذا عرفنا كيف نستغل هذه المعطيات لنحوّل الإنفعال في نفوس المراهقين إلى فاعليّة وتترجم الآمال إلى أعمال ليتحقّق لهذا المراهق طموحه. أمّا إذا بقي هذا الإنفعال سراباً تحوّل إلى طيش وأصبحت هذه النّشوة غفلة وهذا الشّموخ انتفاخاً وورماً وأضاع المراهق شخصيته وهدم مستقبله.
من هنا وجب علينا أن نعطي للمراهق في هذه الفترة أهميّةً كافيةً ورعايةً وافيةً ونراعي واقعه الإقتصادي والإجتماعيّ ونساعده من جميع النّواحي: الجسديّة والعقليّة والإجتماعيّة والإنفعاليّة.
ثالثاً: ما هي الأزمات النفسيّة والإمكانيات الذاتيّة عند المراهق وكيف يتم التّعامل معها تربويّاً
لتتحوّل إلى إيجابيّات؟
يقول الدكتور توما الخوري في كتابه علم النفس التّربويّ ، إنَّ المرحلة الخامسة من مراحل النّموّ النّفسي عند المراهق التي تمتد من (الثالثة عشرة حتى الثامنة عشرة من عمره)؛ تتميّز بثورة وحيرة واضطراب، يترتّب عليها جميعاً، عدم تناسق وتوازن ينعكس على إنفعال المراهق، ممّا يجعله حسَاساً إلى درجة بعيدة. وأهم هذه الحساسيّات والإنفعالات وضوحاً هي:
أ ـ خجلٌ بسبب نموّه الجسمي إلى درجةٍ يظنّه شذوذاً أو مرضاً، فينشُدُ الوحدة ليلاحق أشباحَ خيالاته بقلق وألم ـ زنبقيُّ المزاج يفور ويثور لأسبابٍ تافهة.
ب ـ إنجذاب وإهتمام بالجنس الآخر.
ج ـ نقد وشك بالمجتمع وبالأهل.
د ـ أمنيات وأمانٍ جديدة وكثيرة.
هـ ـ عواطف وطنيّة ودينيّة وجنسيّة.
و ـ الميل إلى التّكتّم على ميوله وأفكاره.
ز ـ أحلام يقظة تركّز إهتمامه بنفسه إلى درجة الغرور.
هذه العوارض التي تنتاب المراهق في هذه الفترة هي في الوقت ذاته إمكانيات، إذا عرفنا كيف نعالجها ونوجّهها ـ فيترتّب علينا في هذه الحال أن ندعوهم ونشجّعهم ونستقبلهم ونرحّب بهم في الوسط الجديد الذي يهمّون للإنتقال إليه وهو عالم الشباب. لا أن نصدّهم ونسكب الماء البارد على الحماسة المتأجّجة في صدورهم، فيؤدّي ذلك إلى خنق الملكات المتحفزّة في نفوسهم وإلى قتل الإمكانيّات المتوثَبة في كيانهم؛ ويكاد يصدقُ بنا حينئذٍ قول ميخائيل نعيمة: الشّباب ليس بحاجةٍ إلى من يوجّهه بل بحاجةٍ إلى من يحميه من موجّهيه .
يجب أن نفتح أمامهم بكلّ فرحٍ ومحبة باب الحياة الإستقلالية، ونوفِّر لهم فرص تحمل المسؤوليّات الإقتصاديّة والإجتماعيّة ـ ونحن نعرفُ شباباً كثيرين يعملون في الصيّف ما يؤمن لهم مصروفهم في الفصل الدّراسي ـ هؤلاء الشباب غالباً ما يكونون أنجح من الشّباب الّذين يؤمن لهم الأهل كل ما يحتاجونه من غير كدٍّ أو جهد ـ ويجب أن نشجّعهم على البوح بأسرارهم وخاصّةً العاطفيّة منها بدل أن ننغلق عنهم ـ ونطوّقهم خوفاً عليهم من الإنحراف والشّرود، فينغلقون ويهربون منّا.
رابعاً: كيف نساعدهم؟
من الناحية الجسديّة:
إنّ النّمو الجسدي السّريع في فترة المراهقة يخلق اختلالاً في التّركيب العضوي عند المراهق، فيظهر أحياناً عنده ضعف في نمو العظام وفقر الدم ـ فيترتّب علينا في هذه الحال عدم تكليفه بأعمال مرهقة تؤثر على بنيته الجسديّة وتعويض ذلك بتقديم الغذاء الكافي والمنوّع للمراهق، والإنتباه المتيقّظ لصحّته العامة خوفاً من ظهور بعض الأمراض أثناء إنتقاله من طورٍ إلى طورٍ جديد ـ والإنتباه أيضاً إلى طريقة جلوسه ومشيه خوفاً من اعتياده على طُرقٍ معيّنة تؤثر على تركيبه الجسدي ـ ولكنّي أتحفّظ بالنّسبة إلى مدى هذه العناية، لأنَّ العناية الفائقة أحياناً تؤدّي إلى ردّات فعل عكسيّة وتفقد المراهق ثقته بنفسه ـ فالتّربيّة الصّحيّة لها أهميتها كالتّربيّة الثقافيّة.
من الناحيّة العقليّة:
إنَّ النّمو العقلي في فترة المراهقة يرافق النمو الجسدي، وتتفتّق عند المراهق مواهب جديدة وعديدة تخلق عنده دوافع جديدة. لصقل هذه المواهب وتنميتها يجب أن نغذّيها عنده ونحرّك له تلك الدّوافع، لأنَّ إهمالها في هذه الفترة قد يقضي عليها. فالإنسان في هذا العمر يكون أقدر على استيعاب المهارات والخبرات بسبب اندفاعه وحماسه ورغبته ـ كما يصبح في هذا العمر إنساناً عقلانياً قادراً أن يحلّل ويقارن ويستنتج ـ ففي هذه المرحلة يبدأ عنده التّفكير المنطقي، فلا يمكننا أن نغيّر عنده أي إتّجاه إذا لم نقنعه بحجج موضوعيّة ومنطقيّة يقبل بها عقله. كما أنَّ هذه الفترة تمتاز بالقدرة على التوافق والتّرابط بطريقة حدسيّة من أجل الحصول على المعرفة التي يريدها. فينبغي والحال كذلك أن نهيىء له فرص التعرّف إلى مُثلٍ عُليا يسعى للوصول إليها وتحقيق ذاته من خلال الإقتداء بها؛ فيكون هذا الهدف دافعاً له للنّشاط والتّحرّك إلى الأمام.
من الناحية الإجتماعيّة والإنفعاليّة:
يقصد بالنّمو الإجتماعيّ التأثّر والتأثير بالجماعة وفيها، من خلال نمو الفرد. أمّا النّمو عند المراهق، فهو في هذه المرحلة يبلغ مرحلة النّضج، فيحاول بسبب نضجه أن يأخذ مكانه في المجتمع، وبالتّالي يتوقّع من المجتمع أن يقبله. لأنَّ القدرات التي أصبح يملكها تجعله ينظر إلى نفسه نظرة إعجاب وإستعلاء، فيها الإدعاء أكثر ممّا فيها من الموضوعيّة ـ بالإضافة إلى أنَّ تجربته ما زالت جديدة، وغالباً التجربة الأولى لا يكتب لها النّجاح التّام، فلذلك قد يرتكب أحياناً بعض الأخطاء؛ يجب علينا عندئذٍ أن نعالج معه هذا الخطأ بهدوءٍ واعٍ وتفهّم عميق ولا نواجهه بالتّقريع والتأنيب، وخصوصاً أمام الآخرين؛ هؤلاء الآخرون ما زال انتماؤه إليهم جديداً ويسعى جاهداً في هذا الوقت لإحتلال مكانٍ بينهم يتناسب مع نظرته لنفسه ـ فإذا واجهناه في هذا الموقف نخدش إحساسه ونجرح كرامته، وسيحاول أن ينتقم لها بأيّة وسيلة ليتمكّن من الوصول إليها ـ وبالتّالي يصبح عدوانيّاً.
يشعر المراهق بأنَّ طاقات كبيرة تستيقظ في كيانه، وآفاقاً بعيدة تمتد أمام خيالاته، ويرى دوره لم يزل محدوداً، فلا يستطيع أن يستغل هذه الإمكانات جميعها لأنَّ المجتمع لم يعترف به بعد، فيشعر بأنَّ فراغاً رهيباً يمزّقه، فيحاول أن يملأ هذا الفراغ؛ وحتّى لا يملأه بممارسات خاطئة تؤثّر على شخصه وعلى المجتمع، يجب أن نوفّر له النّوادي الثّقافيّة والريّاضيّة ونفسح له المجال بالدّخول في الجمعيات الإجتماعيّة ليشعر بأنّه بدأ يمارس دوراً فعالاً في محيطه، وقد أصبح شخصاً له أهميّة؛ فنعطيه بذلك دفعةً جديدة من الثقة بالنّفس.
وفي هذا السن أيضاً تستيقظ عنده الطاقة الجنسيّة، فتحرّك في داخله التّوق إلى الجنس الآخر، وقد يشغله هذا التّوق عن أي شغلٍ آخر. فإذا بقي هذا التّوق مكبوتاً ويعيش المراهق أسير هذا الوهم، قد يؤدي ذلك إلى تعطيل سائر طاقاته الفاعلة، لذلك يجب أن نتركه يختلط مع الجنس الآخر مزوداً بحقائق علميّة عن أسرار هذا الجنس حتى لا يبقى أسير ذلك الوهم وليكون واعياً ومدركاً في التعامل معه ، من خلال توجيهات الوالدين ومراقبتهما. ويكون توجيهه من وراء ذلك طلب رضا الله تعالى بالسعي للزواج وبناء أسرة سعيدة.
خامساً: التقويم
وبهذا نكون قد وفّرنا للمراهق نموَّاً متكاملاً في شخصيته وقد أنصفناه، فأفسحنا أمامه المجال ليعيش حياته بشكل طبيعي وصحيح، وقد حاولنا أن نُيسِّرَ له جميع حاجاته الأساسيّة، فلم يعد يشعر بأي مَركب نقص، فنحصل بذلك على إنسانٍ سويٍّ قادرٍ أن يساهم في بناء هذا المجتمع البشري.
وبقي علينا أن نحدّد من هم الّذين سيقومون بهذا الدّور التّربويّ المهم مع هؤلاء المراهقين ـ إنّهم المربّون والمعلّمون والآباء، شرط أن يكونوا مُنفتحين ويجعلوا من أنفسهم أصدقاء للمراهق لا ولاة أمرٍ، فيشعر بعطفهم وإهتمامهم وبثقة مميّزة فيهم فيتقبل منهم أن يزوّدوه بالمعلومات القيمة حول عادات وتقاليد وقيم المجتمع وضرورة احترامه لها جميعاً، فيصبح مواطناً صالحاً يستطيع مواجهة مشكلاته وحلّها عن طريق الحوار والإيجابيّة والمنطق.