سيرة حياة شاعر

18/5/2017
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

بقلم الأستاذ حسن علي حمادة

طُلبَ إليَّ أن أكتب نبذة عن حياة والدي المرحوم علي صالح حمادة صاحب القصيدة:  الرَّجُل الكبير

سأكتفي في هذه العجالة بمحطّات من هذه السِّيرة التي كان لي مِنها علاقة مباشرة بصفتي ابنه.

ـ المرحلة الأولى:

وُلدَ أبي علي صالح حمادة سنة 1917م. في ولاية بنْسلفانيا في الولايات المتحدّة الأمريكيّة.. عاد به والده إلى لبنان وكان له من العمر ثماني سنوات. وبذلك تكون لغته الأولى هي الإنجليزيّة، والثانية هي اللغة العربيّة التي تعلّمها في ما بعد حتى الإجادة وكانت تعني له الكثير، لكونها لغة القرآن الكريم بالدرجة الأُولى والأَولى. بالإضافة إلى أنّها لغة الآباء والأَجداد، إلى جانب أنّها لغة الفصاحة والبلاغة، لا يجاريها في ذلك أيّة لغة أخرى من لغات العالم. ليس ما أقوله تعصُّباً أو عصبيّةً منيّ. بل إنّها حقيقة مُلَّمٌ بها من قِبَل الكثيرين من علماء اللغات والمستشرقين. وبالمناسبة فأنا مع القائلين بأن اللغة العربيّة لكونها لغة القرآن الكريم، هي لغة توفيقيَّة وليست وضعيّة كسائر اللغات. بمعنى أن الله عزّ وجلّ قد وفّق العرب في الإهتداءِ إليها لكي ينزل بها القرآن الكريم على الصورة التي هو عليها. على أيّة حال تبقى هذه وجهة نظر والحديث بشأنها يطول.

بعد هذا الإستطراد أَعود فأقول: لدى عودة جدّي إلى لبنان بعائلته اتَّخذ من قريته داعل مقرَّه الدائم. وهي قرية صغيرة لآل حمادة تقع في جرود البترون باذلاً كل جهده واهتمامه في الأرض زراعة وتشجيراً وما إلى ذلك. أمّا ابنه الأكبر الذي هو والدي، فقد أدخَله مَدرسة الأَمريكان ـ القسم الداخليّ. وهي مدرسة تقع في ناحية القبة من طرابلس، وما تزال قائمة إلى الآن.

في هذه المدرسة تلّقى علومه وكان تلميذاً مُميّزاً متفوّقاً حتى إذا بلغ المرحلة الثانويّة فُجِعَ بوفاة والده المفاجئ، ليجدَ نفسه ـ وهو الغلام اليافع ـ أمام مسؤوليّة عائلة تتألف من أُمّ وجدّة وثلاثة أطفال. (صبي(1) وطفلتان) فإذا هو أمام عقبة كأْداء ليس بالإمكان تجاوزها. ممّا اضطَرَّه إلى التّخلِّي عن حُلمٍ طالما راوده وسعى من أَجله، أَلا وهو دخول الجامعة وإتمام دراسته.

عاد إلى القرية مضطّراً ومُكرهاً على التَخلّي عن حُلْمه ليقوم مقام والده في الإهتمام بشؤون العائلة وبالتالي الإنصراف إلى العمل في الأرض واستثمارها على الوجه الأكمل، علْماً أن المرحوم والده قد ترك لهم مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الزراعيّة التي كان قد ابْتاعها بعد عودته من المهجر الأَمريكيّ، سواءً في داعل  حيث هو مُقيم أو في راشكيدا. وهي قرية ساحليّة تبعد عن البترون أكثر من ثلاثة أميال بإتجاه الجَبَل. بالإضافة إلى ذلك، ونظراً لإفتقار المنطقة إلى مدرسة لتعليم النّاشئة، فقد تولى هو هذا الأَمر لتعليم أُسرته المؤلّفة من أخيه داود وأختيه: عفيفة وحليمة، واقتصر تعليمه لهم على مبادىء القراءَة والكتابة وعلم الحساب.

اقترن والدي بإحدى فتَيات القرية التي أصبحت أُمّي خديجة ملحم حمادة، وكان زواجه منها في سنٍّ مُبكرة لا تتجاوز العشرين من العمر.

رغم كل هذه الأعباء والمسؤوليّات فإنّه لم يتخَّل أبَداً عن تثقيف نفسه من خلال مطالعاته في مجال اللغة العربيّة وآدابها وكلّ ما يتعلّق بها من صَرْف ونحّو يسْتقيهما من مصادرهما الأَصليّة.

قال لي مرّة: كنت أهدْهدك وأنت طفلٌ في سريرك بأبياتٍ من الشعر ، منها هذان البيتان:

سلاماً أَيّها الغالي سلاما

حَللْتَ القلبَ منّا والعظاما

فيا حسنٌ رعاكَ اللهُ يا بْني

وكنتَ لكلِّ ذي فضلٍ إِماما

فقلتُ له، وكنت في المرحلة الجامعيّة من الدراسة: هذا جميل، ولكن هل يجوز يا أبي تنوين المنادى المقصود بالنّداء؟.

أجابني:  نعم يجوز ولكن في الشعر فقط . فسألته عن الدّليل، فأتاني بكتاب  أَوضح المسالك إلى ألفيّة ابن مالك  (باب النداء) لابن هشام الأنصاري.

ـ المرحلة الثانيّة:

هذه المرحلة تتعلّق بعمله الجديد في حقل التعليم وذلك في المدارس التابعة لجمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة، ومركزها بيروت.

كانت مُهمّتها القضاء على الأُميّة المتفشيّة في القرى اللبنانيّة والإسلاميّة منها بوجه خاص. فكان للجمعيّة هذه في منطقة البترون ثلاث مدارس في ثلاث قرى إسلاميّة هي:

(راشكيدا، داعل وبشنودار). لكل مدرسة من هذه المدارس أستاذ يتولّى شؤونها. وكان والدي واحداً من هؤلاء لقريته داعل.

لم تكن المدارس الثلاث هذه مقتصرة على أبناء المسلمين دون سواهم. بل كانت تستقبل العديد من أبناء القرى المجاورة من غير المسلمين، من أبناء ذوي الدّخل المحدود، وذلك ضمن طاقة كل مدرسة من هذه المدارس.

لقد استمرّ العمل بهذه المدارس مدّة عشر سنوات (1932 ـ 1942) أمّا في ما يتعلّق بمدرسة داعل فلقد كنتُ واحداً من تلامذته أتلقّى دروسي على يديه كسائر الزّملاء، طبْقاً لبرامج التّعليم المعتمدة في المدارس الرّسميّة.

أمّا السّنة الأخيرة الإبتدائيّة (52 ـ 53) بعد توقّف مدرسة المقاصد في قريتنا داعل ـ فقد أَنجزتُها في مدرسة كفرحلدا الأهليّة التي كانت قد أُسِّست حديثاً بمساهمة أَهالي القرية.

ولقد كانت مُهيّأة لإستقبال أكثر من مئَة تلميذ في المرحلة الإبتدائيّة.

عند إنتهاء السّنة الدراسيّة الأولى أقامت إدارة المدرسة إحتفالاً بهذه المناسبة. وقد طُلبَ من والدي إلقاء كلمة. فلبّى الدعوة وألقى كلمة ضمَّنها هذه الأبيات من الشِّعر:

أَيا مَن يطلب العلْمَ الثّمينا

ليصبحَ في عدادِ الخالدينا

ألا فاقصدْ كَفَرْحِلْدا ويَمِّمْ

بها صّرْحاً يَسرُّ الناظرينا

تجدْ للعلْمِ مصباحاَ مُنيراً

وشمسَ هدايةٍ للمُدْلجينا

وأَنهاراً تَدَفَّقُ صافياتٍ

بما يَروي قلوبَ الظامئِينا

فَدعْكَ من القناعةِ واطّرِحْها

ولا تقْبلْ بما قد كان دُونا

خُلقنا للرِّيادةِ إِذ خُلقنا

فلا نرضّى التّوسُّطَ ما حَييْنا(2)

فإمّا أن نكونَ نجومَ علّمٍ

نجوزُ به السُّهى أَو لا نكونا(3)

 

ـ المرحلة الثالثة:

بعدما حصلت على الشهادة الإبتدائيّة من مدرسة كفرحلدا الأهليّة ـ قضاء البترون التي لا تبعد كثيراً عن قريتنا داعل  وذلك سنة 1953م. كنت أظن أنّ والدي سيرسلني وأخي الأَصغر إلى مدرسة من مدارس السّاحل، والأرجح إلى طرابلس. وذلك لإفتقار القرى الجبليّة آنذاك لمدرسة رسميّة أو خاصّة للمرحلتين التكميليّة والثانويّة.

جاءَني أبي في أحد الأيام يسألني:  أتعرف يا بُنيّ إلى أين سأرسلك لإتمام دراستك ؟، فأجبته:  لا أَشك أنك سترسلني إلى مدرسة من مدارس الساحل وأنا أرجّحُ أن تكون في طرابلس .

قال: لا لن أرسلك إلى طرابلس أو أية مدينة من مُدن الشمال. بل سأرسلك وأَخيك إلى مدينة من مُدن الجنوب، إلى صور . سألته مُتعجّباً: إلى صور يا أبي ؟! ولكن لماذا؟!. ما الذي جعلك تختار مدينة بهذا البُعد؟ هناك ما هو أقرب إلينا بكثير، والمدارس متوافرة عندنا في مدن الشمال. أجاب:  صحيح يا بُنيّ، فالمدارس التي تعنيها متوفرة حقاً عندنا في الشمال، أمّا التي أعنيها أنا شخصيّاً فلا أراها كذلك إلاّ هنالك في صور وأَعني بها الكليّة الجعفريّة حصراً. لقد أَسّسها سماحة الإمام الحجّة السيّد عبد الحسين شرف الدين دام ظله لتعليم النّاشئة علوم الدّين والدّنيا معاً. البرامج التعليميّة متوافرة في كل المدارس، أمّا التربيّة الدّينيّة إلى جانب البرامج التعليميّة فإنّها غير متوافرة كما ينبغي بالنّسبة لي إلاّ في الكليّة الجعفريّة في صور. أنا لا أريد لك ولأَخيك الدّنيا فحسب بل الإثنين معاً، الدِّين والدّنيا. وأنا لا أرى في هذا الحقل أَجدر من الجعفريّة بناية المهاجر  لأداء المهمّة أو قل الرسالة في ظلّ مرجعيَّتنا سماحة السيّد عبد الحسين شرف الدين (دام ظله).

وهكذا كان إذ اتصل والدي بالسيّد جعفر شرف الدين وهو ابن سماحة الإمام والمسؤول الإداري الأوّل في الثانويّة، وشرح له ما جاء من أَجله. فرحّب به السيّد جعفر أيما ترحيب، عارضاً عليه أن يكون في عداد الهيئة التّعليميّة عندما علم أن والدي كان لسنوات عديدة مدرِّساً في جمعية المقاصد الخيريّة الإسلاميّة لتعليم أبناء القرى في الشمال ـ قضاء البترون.

كانت الجعفريّة دائماً تشكو من عجز في ميزانيّتها. وذلك لأن الغالبيّة من تلامذتها من الطبقة الفقيرة. فتلجأ الإدارة إلى جمع التبرّعات لسدّ هذا العجز، وخصوصاً من المغتربين من أبناء الجنوب في البلدان الأفريقيّة. وكان السيّد جعفرq يتولى بنفسه جمع هذه التبرّعات.. وبمناسبة سفره إلى أفريقيا لهذه الغاية أُقيم له إحتفال وداعيّ ألقى فيه المرحوم والدي قصيدة من أربعين بيتاً نورد منها ما يلي، وهي تحت عنوان:

الرَّجل الكبير

بحقٍ مَن هو الرَّجُلُ الكبيرُ

تُرى ملكٌ يُتوَّج أم وزيرُ

وإنْ يكُ ما لَه شرفٌ ودينٌ

ولا خُلُقٌ كريمٌ أو ضميرُ

فأَيْمُ الحقِّ إنسانٌ كهذا

ولو ملكاً فَممْقوتٌ حقيرُ

وما يحويه من مُلْك ومَجْدٍ

بِشَرْعِ اللهِ بهتانٌ وزورُ

وليس بصاحبِ العليا.. وأَمّا

كريم الخُلْقِ بالعليا جديرُ

كما بسعادةِ الدّارَين أَولى

وأَحرى أن تكون له القصورُ

وأَجدر أن يُطاعَ بكلِّ أَمرٍ

ويمشي خلفّه الجمعُ الغفيرُ

فكيف وأَنتَ ذو خُلُقٍ رفيعٍ

كريمٌ همُّك الشعب الفقير؟

فكيف وأَنتَ ذو شرفٍ وديْنٍ

وذو قلبٍ يحِنُّ ولا يجورُ؟

فكيف وأنتَ مَن بالجودِ بحرٌ

ومَن للحقّ معْوانٌ نصيرُ؟

فكيف وأَنتَ من بيْتٍ عريقٍ

له في كل مَكْرُمةٍ جذورُ؟

فكيف وأنت جعفرٌ وابن عبد

الحسين ومَنَ له العُليا سريرُ؟

وكيف وأنت للهادي حفيدٌ

أَجلْ وأَبوك مولانا المشيرُ؟

وبعد نبيِّنا الهادي لَهادٍ

وبعد أَمير أُمَّتنا أَميرُ؟

له في أمة الإسلام فَضلٌ

عظيمٌ النّفعِ فيه هدىً ونورُ

لجيلٍ قائِمٍ ولكلِّ جيلٍ

إلى أبدٍ تُخلِّده الدّهورُ

أبوك الدَّوحة العلياءُ منها

تفرَّع ذلك الغصنُ النّضيرُ

وقل بالحقِّ أَغصانٌ تَدلّى

بها للأُمّةِ الخيرُ الوَفيرُ

بفضلِ جهودكم يا خيرَ قومِ

سيقضي نخبَه الجهلُ الغرورُ

وينهضُ شعبُ عاملَ من رُقادٍ

عميقٍ حيثُ ثمْرتُه الشّخيرُ

وتلبسُ عاملُ العليا وشاحاً

وتزدهرُ الصحارى والصّخورُ

وتصبح قِبْلةَ الأنظار دَوماً

وتمسي جنَّة الأرضين صُورُ

لنشْرِ معارفٍ ولنشْرِ علْمٍ

لكمُ أَلقتْ أَزمَّتها الأُمور

فشدتم للعلى والمجدِ صَرحاً

تحلِّق دون قمّته النُّسورُ

ومن أجوائه علماً نَشرْتم

وذكْراً منه يُسْتاف العبيرُ

فما أرضاك جعفرُ كلُّ هذا

بعُرْفك إنّه الجزءُ اليَسيرُ

كبيرٌ أَنتَ ذو عَملٍ كبيرٍ

إليه يقتضي المالُ الوفيرُ

عزمتَ على المسير فيا لعزْمٍ

تجرّد للصَّلاحِ فلا يَخورُ

تجاهدُ في سبيل العلم دَوماً

لأَنَّ العلْمِ مصباحٌ منيرُ

وما جاهدتَ بل ما سرْتَ إِلا

لإِصلاحٍ جهادُك والمسيرُ

تُذلِّل في مسيرك كلَّ صَعبٍ

ولم يقعدْ بك الأَمرُ العَسيْرُ

وتجتاز المخاطرَ لا تُبالي

وهل يجتازها إلاّ الخطيرُ؟

وصُولك بالسّلامةِ خيرُ بُشْرى

إِلينا منكَ يحملها الأَثيرُ

وعَودُك ظافراً في عَونٍ ربٍّ

كريم فيه يزدهر السُّرورُ

لئِن غادرتنا فلنا قلوبٌ

وراءَك دون أَجنحةٍ تطيرُ

وتأبى للصّدور العَودَ إِلا

بعَودِك يومَ يُنْيبِنا البشيرُ.

 

الهوامش:

(1) هذا الصَّبيّ هو عمّي المرحوم (داود حمادة) تُوفّي وهو في ريعان الصِّبا لم يكد يتجاوز لدى وفاته الرابعة والعشرين من العمر. كان يعني لي الكثير. وقد ظهر له بعد وفاته في أقل من شهر ما يُثير الدهشة في مسألة تتعلّق بأهل بيت النبيّ i، ولقد أشرت إليها في قصيدة مطوّلة كتبتُها عنه مؤخراً بعنوان  ذكرى شاعر إِذ كانت له محاولات شعريّة ناجحة وهو القائل:

لا طيْبَ في الدنيا ولا خيراتها

ما دام عمرُ المرءِ في نقصانِ

(2) إشارة إلى قول أبي فراس الحمدانيّ:

وإنّا أُناسٌ لا توسُّطَ بيننا

لنا الّصدرُ دون العالمين أو القبّرُ.

(3) أو لا نكونا: التقدير: أو أن لا نكونا عطفاً على ما سَبقها.