الشخصيّة المعنويّة في الفقه الإسلاميّ(1)

20/04/2015
العدد الواحد والاربعون نيسان -2020

العلاّمة الشيخ علي حُبَّ الله

تنقسم الشخصيّة في الفقه الوضعي: إلى شخصيّة طبيعيّة، وشخصيّة معنويّة، ويراد بالأولى الشخص العادي الطبيعيّ كزيد وعمر، ويراد بالثانيّة الجهة التي تشير إلى المجموع كالجمعيات والأحزاب والشركات والمؤسسات والدولة والحكومة.... ووجودها وجود تقديري تنزيلي، اي أنّها مقدر الوجود، أي اعتبرت موجودة ونزِّلت منزلة الموجود، فقوامها الاعتبار.

ومن حيث المفاعيل القانونيّة للشخصيّة المعنويّة، يمكن القول إنّها كمصطلح حديث في علم القانون، كانت خاضعة في تاريخ أوروبا الحديث إلى فترات من الشدّة والضعف، مرجعه إلى اتجاه الفلسفات المعاصرة، ومُرجحّها بين الروح الفرديّة والروح الجماعيّة، (المذهب الفردي/ المذهب الإجتماعيّ) فبعد الثورة الفرنسيّة عام(1789)، وتهاوي الأنظمة الملكيّة المرتبطة بشخص الملك الفرد، بدأت الإتجاهات السياسيّة والإجتماعيّة في أوروبا، تشعر بالحاجة الملحة إلى كيان اعتباري يقوم بالمهام التي كانت مسندة إلى شخص الملك، هذا من جهة، ومع بزوغ العصر الصناعيّ وبداية التشكلات الماليّة المصرفيّة في أوروبا بداية عصر النهضة من جهة أخرى، كل ذلك كان يدفع باتجاه ضرورة إنشاء كيانات اعتباريّة تناط بها مهمة تسيير عجلة الحياة الجديدة والمتطورة.

يضاف إليه التحفيز الإقتصادي على المشاركة والمساهمة مع الرغبة في ضمان النتائج، فبدل أن يدخل الإنسان في تجارة مع ما يترتب عليها من مخاطر قد تؤدي إلى الإفلاس، يمكن تأليف شركة مساهمة، يساهم كل فرد بنصيب محدود فإن ربح وإلا خسر مقداراً ضئيلاً لا يخرجه من الحياة الإقتصاديّة والعمليّة.

لا نقصد من هذا العرض القول إنّ الشخصيّة المعنويّة بدأ ظهورها في العصور الحديثة، بل هي موجودة منذ زمن بعيد، فالمعاهدات التي كانت تجري بين السلاطين، لا تطال جسم السلطان وشخصه بل كل أفراد المملكة.

وفي قانون التجارة تقسيمات معهودة ومعروفة لهذه الشخصيّة، فهي قد تكون عامة كالدولة ومؤسساتها ووزاراتها والمحافظة والقائمقاميّة والنيابة... وقد تكون خاصة تتشكل من جماعة أشخاص حقيقيين، وهي بدورها تنقسم إلى شخصيّة معنويّة خاصة انتفاعيّة كالشركات التجاريّة والمصارف وغيرها ممّا يراد منه الربح، وشخصيّة معنويّة خاصة غير انتفاعيّة مثل الجمعيات والأنديّة والإتحادات والأحزاب... وكلا القسمين يحتاج إلى تسجيل طبق القوانين المرعيّة في هذا الخصوص، ويكون التسجيل بالإسم ومحل الإقامة والجنسيّة والذمة الماليّة والأهليّة وغير ذلك، وهو ما يعبر عنه بالعلم والخبر.

ويبدو أنّه لم يسل حبر كثير في سبيل بحث مفهوم الشخصيّة المعنويّة في الفقه الإسلاميّ، إذ لم أجد من تعرض لهذا الموضوع سوى الأستاذ الزرقاء في كتابه المشهور \"الفقه الإسلاميّ في ثوبه الجديد\"، حيث ذكر جملة شواهد لا يخلو بعضها من مناقشة، ويبدو أن الأستاذ الزرقاء وجد صعوبة في العثور على شواهد أو أدلة في النصوص الأوليّة (القرآن والسُنّة)، تكشف عن رعاية الشريعة لما يسمى الشخصيّة المعنويّة أو الحكميّة، فلم يذكر سوى الحديث النبوي: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»، فما يعطيه أحد المسلمين للمحارب طالب الأمان يسري على جماعتهم، ويكون ملزماً لهم كما لو صدر منهم جميعاً، ففي هذا الحكم اعتبار مجموع الأمّة كشخصيّة واحدة، يمثلها في بعض النواحي كل فرد منها.

وكذلك استدلّ بالدعوى الحسبيّة التي يرفعها الفرد نيابة عن المجتمع، واعتبر أن شخصيّة بيت المال يمكن أن تشكل شخصيّة حكميّة معنويّة، فقد جاء الشرع بنظريّة فصل بيت المال عن مال السلطان، وبيت المال يمثل مصالح الأمّة في الأموال العامّة، فهو يملك ويملك منه وعليه، ويستحق التركات الخاليّة عن الإرث والوصيّة، ويكون طرفاً في الخصومات والدعاوى يمثله فيها أمين بيت المال.

وكذلك حال الوقف، حيث يملك ويملك عليه، يمثله فيها المتولي أو الناظر، وإذا وقعت خيانة من ممثل الوقف، بأن أساء التصرف، أو خالف شروط الواقف، انتزع الوقف من يده، ويضمن للوقف ما يوجب الشرع ضمانه، لكن كلام الفقهاء لا يساعد عليه، فقد جاء في الفتاوى الخيريّة: أن الوقف لا ذمة له، وكذلك منع الفقهاء الوصيّة لمسجد «لأنّ المسجد لا يملك»، وأجازه الرملي في نهاية المحتاج. (3/116 و 6/46).

كما نازعوا في العين الموقوفة بعد الوقف، أنها هل تبقى على ملك الواقف غاية الأمر تكون مسلوبة المنفعة بالقياس إليه، أو تنتقل إلى الموقوف عليهم، أو تصبح بلا مالك أصلاً وهو المسمى بفك الملك، فذهبت المالكيّة إلى الأوّل، وذهب الأحناف إلى الأخير، والحنابلة إلى الثاني.

ووافقت الإماميّة الأحناف بأن الوقف فك ملك لكن في خصوص الوقف العام كالوقف على المساجد والمدارس... دون الوقف الخاص كالوقف على الذريّة!!!.

وكذلك شخصيّة الدولة، فقد جعل الفقهاء أحكاماً خاصة لمنصب الإمامة والولاية تلزم مجموع الأمة، إن على الصعيد الخارجي أو الداخلي، ومن هنا كان لمنصب الإمامة إقامة الحدود ورعاية حق الله في الأمّة الذي يرادف معنى النظام العام، فما للإمام من الخمس مثلاً هو لمنصب الإمامة وحق الإمارة، لا لعنوانه الشخصيّ، بل للبعد الحقوقيّ في شخصيته.

 

الهوامش:

(1) هذا البحث مأخوذ من كتاب «شرح قانون المحاكم الشرعيّة ـ دراسات وبحوث فقهيّة مقارنة» أصول المحاكمات للطوائف الجعفريّة ـ السُنيّة ـ الدرزيّة ـ العلويّة. منشورات زين الحقوقيّة ـ الطبعة الثانيّة ـ بيروت 2002م. ص 187 ـ 188 ـ 189ـ190.